الحجحجيك






الحجحجيك

نصوص قصصيّة

عبدالرحمن عفيف






ببغاوات عمّي الشيخ توفيق
 
 
يصل "أحمدي دين" إلى الجسرِ الذي يربط بين الحواري الواقعة بالقربِ من الجامع الكبيرِ والتي بالقربِ من جامع الأحنافِ في حارّة الخاتونيّة، الجامع من الإسمنت الصّبِّ، جامع مجرّد، بارد الشّكلِ، يثير رغبة الابتعاد عنه.
على ظهر "أحمدي دين" كيسٌ، فيه ببغاوات صامتةٌ متعبةٌ أيضا في هذه الظهيرةِ القاسية. ببغاوات ذوات ألوانٍ  فاقعة، حمراء أو صفراء وبأذيال منقّطة وأجسادٍ عليها صبغ لامع مختلط بقصبٍ برّاق شديد.
يخرج "أحمدي دين" ببغاء ويقرّبه من فمهِِ
- اجلب لي حمامة من تلك الحمامات التي بغير جناحٍ!! من ذوات الخدود الحمر والبشرةِ البيضاءِ! أفهمت ما أقصد؟
- لم يأمرني الشّيخ توفيق أنْ أصطاد الحماماتِ، سعري عشرون ليرة وأنت تعرفُ ذلك..
- أيّها الببغاء الغبي، أنت الآن تحت سيادتي وينبغي أن تنفّذ ما أقوله لك، أستطيع أن أضرب بك على هذا الجسرِ فتتحطّم إلى فتات من الجبسِ البائس الرماديّ الذي صنعت منه
- حقّا أنت مجنون كما يسمّيك أهل عامودا.. و أيضا أحمد الضرّاط...
حين يكمل الببغاءُ جملته، يحنق "أحمدي دين" جدّا عليه ويجنّ جنونهُ. يحسّ بالإهانةِ حيث لم  يتوقّع قطّ أن يتّهمه ذات يوم  ببغاء من الجبس، لطالما باع أمثاله أحيانا حتّى بخمس ليرات، بتهمة الضّرطِ وخاصّة أنّ الضّرط صفة عامّة، أليس جميع النّاس يضرطون!!
مأخوذا من حنقه وغضبه المستشيط وهذه الحرارة الجهنّمية فوق هذا الجسرِ الناريّ ، يأخذ الببغاء ويضربه بحائط الجسرِ وثم يدوس على بقايا الجبس ويطيح بها بحذائه البلاستيكي الذي تفوح منه رائحة تعرّق نتنة في كلّ جهةِ. يحمل الكيس بعدئذ على ظهره ويتّجه إلى بيت عمّي الشّيخ توفيق الحسيني  بالقربِ من دائرة تجنيد عامودا وفي الطّريق ينادي:
- ببغاوات ملوّنة، تعالوا وانظروا بأنفسكم، ببغاوات قادرة على جلبِ البناتِ ذوات البشرةِ الحليبية، الحمامات البيضاء التي بغير جناح، ببغاوات متكلّمة من صنع الشيخ توفيق. بألوان برّاقة من القصبِ  بعشرين ليرة ...!!
يتردّد صدى نداء "أحمدي دين" في الشوارع الساكنة سكونا فظيعا في القيظ، بدون أن يفتح أحدٌ بابه ويرغب في شراء ما يعرضه، فقط في زاوية إحدى الشوارع يصرخ فجأة بعض الأولاد
- أحمدي ضرّاط.. أحمدي ضرّاط
ويختفون حين يلتفت "أحمدي دين" إلى الجهة التي انطلقت منها الصرخة
- أحمد الضرّاط سيُدخِل في أخواتكم. في الحمامات ذوات البشرة الحليب التي بغير جناح، هيّا اجلبوهنّ لي وسترون كيف أخرج منهنّ البيضات...
حين لا يسمع "أحمدي دين" الأولاد بعد ولا يجد أيّ مشترٍ للببغاواتِ، يسرع الخطواتِ إلى بيت عمّي الشّيخ توفيق، فيفتح له " بلند" الباب
- شيخ توفيق، لا أحد يشتري هذه الببغاوات الوقحة، في حارة الخاتونيّة كان أحدُ الببغاواتِ جائعا فوضعتُ له بعض البرغل لكنّه لم يأكل. ربّما كان مريضا وخشية أن يعدي  الببغاوات الأخرى بمرضه، فقد رميته في النهرِ..
يصمتُ عمّي الشيخ توفيق ويبتسم ويطلب منه أن يدخل ليجلب له "بلند" المعكرونة.
يلتهم "أحمدي دين" المعكرونة بشره وجوع غريب ثم يقول لعمّي الشيخ توفيق:
- ألا تشربون الشّاي
- بلى، ستحضّر "ديانا" الشّاي، هيّا "ديانا" أحضري لعمّك أحمد الشّاي!!..
- شيخ توفيق، كنتُ قبل أيّام في الحارةِ الشّماليّة حيث الكثير من الحمامات ذوات العباءاتِ السّوداء. كنتُ أعرض الببغاوات لكنّهنّ كنّ يقلن لي:" فليصنع لنا شيخك أشياء أخرى غير هذه الببغاوات الجامدة البليدة.. مادّاتٍ بأصابعهنّ إلى ما بين فخذيّ" لكنّني لم أفهم ما يقصدن بهذه الأشياء الأخرى ..
- تلك الحمامات ينبغي عليهنّ أن يتزوّجن.. هذا كلّ ما في الأمر..!!
- شيخ ألا تخطب لي واحدة من ذوات العباءات..
- في الموسم القادم حين تبيع ببغاوات كافية !!
ينال هذا الجواب رضى "أحمدي دين" فيصمت وينظرُ إلى عمّي بنظرة تطفر بالإعجاب ثمّ يقول:
- بالقرب من الحدودِ التركيّة في الّليل الدامس جدّا رأيت فجأة بالقربِ منّي عنزة تأكل الحشائش فمددت بيدي إلى ما بين فخذيها لأعرف أهي ذكرٌ أم أنثى، فالتفتت إليّ بغضب قائلةً، أبعد يدك عن خصية عمّك!! لماذا قالت لي العنزة ذلك ...؟
- ربّما كانت جنيّا حوّل نفسه عنزة وكان يرعى في الّليل..
يجاوب عمّي الشيخ توفيق هكذا.. ويغطّ في النّوم بالقرب من كيس الببغاوات..
 






























سفينة مهتدي
 
- يا شيخي العزيز، نومي كلّه راحةٌ، سبحان الله العليّ القدير المتعالي. نومي حديقةٌ كبيرةٌ، فيها شتّى الورودِ النضرةِ، عليها الندى. السّحبُ تمضي ببطءٍ والرّيح تميلُ بالأشجارِ، فيرتفعُ صوتها في كافّة الحديقة المترامية. أنام أو أكون بين النّوم واليقظةِ، لا أعرفُ على وجه التّحديد. أحيانا أحلم ولكن بعدئذ لا أدري هل كان ما حلمته في حال الصّحو أم النّوم. أرى الغزلان، الضباع، الجراد، الأسود، الخراف، الأفاعي، العقارب، التماسيح، الصيصان، الذئاب، الثعالب، الدّجاج، الدّيكة، الكلاب، الفئران والقطط، أراها كلّها تمضي وتجيءُ، تتنزّه في حديقة يقظتي أو حلمي. الذّئاب تأكل الحشائش، الأفاعي تلعبُ مع الصّيصان، الذئاب والخراف تتشمّس مع بعضها. لا يمسّ أحدٌ أحداً بأقلّ سوءٍ. سبحان الله، يا شيخ عفيف، وأنا بسرور بينها وتشرق الشّمسُ من الغربِ والقمرُ من الشّرق في آنٍ واحدٍ، للأيّامِ طمأنينة الّليل واشراقُ النّهارِ. الجوّ لطيفٌ، الفصولِ كلّها في آن واحدٍ. تسيل الجداول من بين الحجارةٍ متناغمة، موسيقى المرتفعات والجبالِ. هكذا أحلم على الغالبِ يا شيخ عفيف وفي هذه الحالةِ أحسّ بقلبي كبيراً جدّا بغير ذرّة من الهمّ والمعاناةِ وأريد أن أحمل الجراء والتماسيح الصّغيرة في حضني، أريدُ أن أقبّل أفواه الذئاب والفهودِ وأن تلف الأفاعي نفسها على ذراعيّ. هكذا تكون فرحتي، وحقّ عيسى المسيح ابن مريم صلّى الله عليه وسلّم...!!
يقول مهتدي هذا بينما نقفُ في الغرفةِ التي جعلنا منها مطبخا، غرفة كبيرةٌ نوعا ما، نقف هناك، أبي ومهتدي وأمي وأختاي وأنا، في العصرِ. يريد أبي أن تحضّر إحدى أختيّ لمهتدي شيئا يأكله وهو بدلا أن يقول ما يريد أن يأكل، يبدأ بمونولوج عن أحلامِهِ ويعدّد الحيوانات التي تزورنومه وتتكلّم معه، يريدُ أن يضمّ كلّها في سفينة رؤياه تلك. يعدّد أسماء بعضها ثمّ يتوقّف مستحضراً أسماء أخرى، ينظرُ باتّجاه الباحةِ فتركض قطّة مجتازة باب المطبخ، فيقول، القطط أيضا!. عند ذاك ننفجرُ ضاحكين وهو بدون أن يبالي بضحكنا يتابع قصّ حديثهِ بهدوء وطمأنينة. الشّيخ مهتدي أو القس مهتدي، لا يعرف المرء كيف يسمّيه، أو مهتدي كما كان الجميع ينادونه مرتديا جلبابا أسود طويلا، بلحيةٍ رماديّة طويلة وصندوق كبيرٍ طويلٍ من التّنكِ، في الصّندوق بعض ملابس وإنجيل وقرآن. يتكلّم فيستشهد بالقرآن الكريم والأناجيل.
- كان المُلاّ عبدالحليم، أستاذنا في علم الفقه والشرع والنّحو لا يطيق مهتدي. لم أكن أعرف سبب هذا الكره الشديد من قبل المُلا وهو المعروف بعلوّ العلم والمعرفة. لكنّهما كانا يشبهان بعضهما البعض شبها كبيرا في الهيئة، و حدث أنّ المُلاّ رأى نفسه ذات يوم في مرآة كانت موضوعة في الحجرة التي كنّا نتلّقى فيها دروسنا الشرعيّة على يده، فغضب وصاح في تلامذته: مَن الذي جلب هذا المعتوه مهتدي إلى هنا؟ أخرجوه حالا!. فهم التلامذة ما الذي حدثَ، لكنّهم كتموا ضحكاتهم وقاموا بأخذ المرآة إلى مكان آخر، وصاروا يتندّرون بعد ذلك بهذه الحادثةِ طويلاً...
- كان مهتدي رجلاً فقيراً. في البداية كان قسّا ولأسباب لا أعرفها أسلم. كان متعمّقا في الأناجيل ويحفظ الكثير من سورالقرآن غيبا وأحيانا كان لا يعرف فيما إذا كانت الجملة التي يستشهد بها للتو من القرآن أو من الإنجيلِ. كان قلبه قد اختلطت فيه المسيحيّة بالإسلامِ ويرى أحلاما فردوسيّة. كان يرتدي ذلك الجلباب الأسود الطّويل، صيفا وشتاءً ويتجوّل بين ملالي وشيوخ عامودا حاملا ذلك الصّندوق بمحتوياته البسيطة. لحيتُهُ كانت رماديّة وروحه ونظرته كانت غائمة شائخة لكن مليئة بالسّلامِ ِ. حين كانت حوائجه لا تقضى من قبل معارفه الذين كان معظمهم فقراء في عامودا، كان يذهب إلى مدير النّاحية ويبدأ بطرحِ طلبه وحاجته بادئا هكذا،  
- يا مدير ناحية عامودا الكريم، كما يقول السيد رئيس الجمهوريّة العربيّة السوريّة حافظ الأسد صلّى الله عليه وسلّم...
وهكذا كان يتمّ حديثه، محاولا تليين قلب مديرالنّاحية الذي كان يبقى ذاهلا ولا يعرف هل يوبّخ هذا الرّجل الطّويل ذا الجلباب الأسود، هذا القسّ والمُلاّ والشيخ أم يجزيه ويقضي حاجته وأكثر، جراء هذا الوصف والمدح للرئيس..!!
حين بعد ذاك كان مهتدي يُعاتب بسبب من ذلك من قبل معارفه وأصدقائه، فإنّه كان يردّ عليهم قائلا،
- إي .. نعم مدير ناحية عامودا صلّى اللّه عليه وسلّم رجلٌ شهم وهكذا...!!
- أتذكّر مهتدي مرّتين، في الأولى جالسا في حجرة أبي المطلّة على الشارعِ، في إحدى زوايا الحجرة صندوقهُ التنكيّ الذي ينتمي إلى العهد العثماني، وفي الصّندوق القرآن والإنجيل. كنتُ أحسّ أنّ هذا الرّجل ليس شخصا عاديا إنّما خارجا من سفينة نوح فوق جبل جودي وأنّ هذه الرؤيا التي يتحدّث عنها، عن الأسودِ والبغال والدجاج والثعالب والثعابين التي تعيش في وئام وسلام في حديقة أحلامه إنّما هي حيوانات نوح التي حملها معه في السفينةِ وأزال الله  من بينها العداوةَ مدّة الفيضان الكونيّ. المرّة الثانية حينما كنّا نقف كلّنا في المطبخ وبدل أن يتكلّم عمّا يريد أكله كان يتحدّث عن حلمِهِ ذاك الذي يراه في معظم ساعات نومِهِ وأضاف القطط إلى قائمة الحيوانات حين أسرعت قطّة في الباحةِ ورآها مهتدي، فأضافها سريعا وأكمل الحديث ونحن انفجرنا ضاحكين...
- بعد ذاك لم أعد أسمع شيئا عن مهتدي، قيل أنّه كان مريضا في مكان ما وأنّه ربّما كان قد توفّيَ.أيضا أنّه كان يربّي ثعبانا في صندوقه التنكيّ الكبير، ثعبانا أسود جلبه من جبل جودي، حيثُ أنّه كان ينظرُإلى الثعابين أنّها مقدّسة وأنّه ينبغي عدم قتلها. كان يحاول أن يطبّق حلمه ذاك في الواقع ولكنّ الثعبان كان يلدغ ويفترس الأرانب التي توضع في الصّندوقِ. أنّه في زيارته تلك المشهورةِ لمدير ناحية عامودا، كان يحاول بشتّى الأساليب أن يقنعه أن يثبّت معاشا شهريّا لطعام ثعبانه من الأرانبِ إلى أن يعتاد الثعبان على الأرانبِ ولا يفترسها بعد، وأنّه بذلك كان يريد أن يبرهن أنّ الجنّة ممكنةٌ على الأرض. وأيضا أنّه كان مبعوث الماسونيّين إلى عامودا، جاء يحرّف الإسلامَ ويلعب بعقولِ النّاس، لكنّه فشل، حيث في الأساس ليس أهل عامودا من ذوي الإيمان القويّ.
- يا شيخ عفيف العزيز، أنا جائع، لكنني أستطيع أيضا أن أصبر على الجوعِ، لايهمّني الطّعامُ مطلقا، أستطيع لأسابيع أن أكتفي فقط ببعض الخبز وقليل من الماءِ. السّعادةُ الروحانيّة للبشر هي التي ينبغي البحثُ عنها ويجب على البشر أنْ يتعلّموا حبّ بعضهم البعض والكف عن الإضرار ببعضهم البعض وطلب الخيرِ لبعضهم البعض وللحيواناتِ. كم القطط جميلةٌ، كم الأفاعي والعقاربُ جميلة والحشراتُ والدوابّ كلّها! إنّها مملكةُ الله. كلّنا والحيوانات معنا أبناء وبنات الله. الخنازير، الخنافس، الديدان، الزنابير، الثعابين، القطط، اللقالق، الشحارير، الببغاوات، كلّها تسبّح في حديقة الله، في الشّروق والغروبِ. تقولُ له، أزل العداوة وانشر الحب. اجعل أن تلعب الذّئاب مع الحملانِ، أن تنام الثعالب والدجاجات تحت سقف واحد، صلّى الله عليهم وعلينا أجمعين. الأرض هي سفينة نوح وكما في السفينة، فليكن الخير في الأرض بين البشر، آمين...!








عدسات أمّي في حلب
 
 
أنا نمرٌ مرقّطٌ رومانسيٌّ.
أنا في الصفّ الحادي عشر. أنا نمرٌ رومانسيٌّ يحبّ وينظرُ إلى البيوت المخروطيّة التي تقع بالقربِ أو في الطّريق إلى حلب. الطريق الذي تسلكه الباصات الحديثةُ إلى مدينة حلب. مدينة التّجارة والزّعتر، حلب الناقة الشّهباء أو البقرةِ الشّهباء وأنا النمرُ المرقّط الرومانسيّ. فقط البذلة التي أرتديها تجعلني نمراً، نوع من القماش الأزرق بلطخٍ بيضاء، تصنع منه البناطيلُ والقمصان وتصبح بذلة، ومن يرتديها يصبح نمرا رومانسيّا أو غير رومانسيّ.
أحبّ أيضا تسلّق الأشجار، أفعل ذلك كلّما وجدتُ الفرصة والشّجرةَ والشّارع أو البريّة.
قالت لي أمّي:
- الأطبّاء عندنا في الجزيرةِ غير جيّدين ولا يفهمون ما أصاب عيوني، لم تفد الإبر والحبوب شيئا. في حلب هناك أطّباء أفضل. حلب مدينة سوريّة الثّانية.
قالتْ أمّي:
- هيّا يا نمري المرقّط، ارتدِ جلدك المرقّط ولنتوجّه إلى حلب!!.
أو قالت أمّي هكذا:
- الأطبّاءُ في القامشلي سيّئون، أريدُ أن أشتري لي نظّارة، لعيوني التي أجريت لها العمليّة. نظّارتي هذه ذات عدسات غليظة جدّا وإنْ نظر الإنسان إلى عيوني، فإنّه يراها كبيرة جدّا، بحجم فاحش. أريدُ نظّارة ذات عدسات رقيقة وأن لا تكبّر عينيّ جدّا، لا أريد مكبّرة!! أريد عدسات رقيقة وهي توجد في حلب.
ارتديتُ بذلتي المرقّطة ورافقتُ أمّي إلى مدينة حلب.
- مَن قال أنّ العائدين إليّ لم يصلوا وأنّا
لم نشعلِ النّهب الجميل..
أنا المساء.. أنا المساء...
يردّد لقمان ديركي على درّاجتي الهوائيّة ويسوقها بتهوّرٍ لم أعهده أبداً. أنا على الكرسي الخلفي ويسوق لقمان كأنّه يسوقُ طائرة ورقيّة، أعني طائرة تسوقها الرّيح في عامودا خبط عشواء.
قال لي لقمان:
- ستكتب أنّي زرتُ عامودا، وأنّي كتبت قصيدتي عن موت ومسرح مصطفى الحلاّج في غرفتك.
وقرأ لقمان قصيدته لي بصوتٍ جهوريٍّ عالٍ، أعجبتني طريقةُ الإلقاءِ وأنّه متأثّر بما كتبه وأنّه غائب في النصّ الذي أبدعه، لكنْ لم تعجبني القصيدة.
– لقمان، هذه القصيدة ليس فيها عواطف وأحاسيس، إنّها فقط متانة في الصياغة وصوغ قوي للجمل.
كان لقمان يرتدي كلابيّتي البيضاء مساءً وكنت عائدا من الرّكضِ لنصف ساعة بالقربِ من جدران مدرسة المعرّي.
– الرياضة جميلة، أنا أيضا ألعب التنس مع الفتيات في المعهد العالي للفنون المسرحيّة..
قطع لقمان بالبسكليت إحدى الشّوارع بتلك اللامبالاة متابعا ترديد سليم بركات، وجاءت سيّارة سريعة من الناحية الأخرى، لم ألحق أن أنبّهه أو أمسكه، رميت بنفسي من على الكرسي وانطلق هو على الدرّاجة...!!
كان أخي لايزال في الدّوام في كليّة الضبّاط، حين وصلنا إلى حلب. حين أتى، كنّا ننتظره أنا وأمّي في تلك الساحة التي وقف فيها الباص وأنزلنا. كان يرتدي بذلته العسكريّة بنياشينها، أحزمتها، خيوطها وألوانها. نحاس وشراشيب حمراء تبرق عليها الأضواء.
– أيّها النّمر المرقّط، انتبه! هنا ليس عامودا، النظافة فوق كلّ شيءٍ آخر. لا ترمِ أعواد الثقاب على الإطلاق في أيّ ركن.
كم بالفعل هذه الغرف نظيفة ومرتّبة في هذا القبو النصفيّ. لكن ضجيج الدراجات النارية ذات العجلات الثلاث  كبير على الشارع وضجيج مرور السيّارات وأيضا هناك بين الحين والحين روائح وأبخرة متعفّنة تهبّ مع الرّيح المفاجئة. في الغرفِ آنية زجاجيّة رقيقة فيها زهرات الياسمين. تمعن الأزهارُ النظر في نفسها في الظهيرةِ وتفكّر بهدوء.  ذهبتُ برفقة أخي ومها إلى إحدى المعارض، رأيت هناك ترجمة رحلات هاينه في أوربا في مجلّدين وأيضا الأواني المستطرقة لأندريه بريتون.
– مَن هي مها!!؟
- إنّها فتاةٌ جميلةٌ ولطيفةٌ، ربّما تكتب الشّعر وهي التي تضع الياسمين في تلك الآنية الزّجاجيّة الزرقاء.
- تستطيع أنْ تقع في حبّها أيّها النّمر المرقّط!!.
أنا أضحك بعد شرب قنينة بيرة في نادي الضبّاط بلا توقّف. هذه هي أوّل قنينة بيرة في حياتي..!! وأيضا لم أرَ الياسمين في حياتي، هذه أوّل ياسمينات في حياتي ولم أتكلّم مع أيّة فتاة في حياتي، مها هي أوّل فتاة أتكّلم معها في حياتي.
– اكتب عنها قصيدة !!.
– أنا نمرٌ مرقّطٌ، عاموديّ، أتسلّق الأشجار.
- أتينا أنا وأمّي لشراء النظّارات بالعدسات الرقيقة، كي لا تخجل أمّي حين ينظر الآخرون إلى عينيها وليس كي تأخذنا في جولاتٍ شاسعة وتعرّفنا على حلب، أو لأتعرّف لأوّل مرّة في حياتي على الياسمينات وأشمّها وأشرب معك ومع مها البيرة في نادي الضّباط ولكي تأخذ أمّي أيضا إلى هذا النادي. ألا تراها تتغطّى بعباءتها السّوداء وتخجل أن تأتي إلى مكان تُشرب فيه البيرة!.
- غدا نذهب إلى الطبيب الذي يصف ويعرف هذه العدسات. عدسات أمّي لا بأسَ بها. ما الذي ستفعله بعدسات الموضة!!؟.
في الغدِ يأتي لقمان ويريد أن يجري مقابلة مع أحد الكتّاب. أذهب برفقته ولا نركب أيّ باص ولا تكسيَ أجرةٍ. نمشي ونمشي وأنا أرى الأشجار وأرى الأشجار وأنظرُ إلى الأشجار وأنظرُ إلى الأشجارِ. كم لقمان صامتٌ في حلب وضجر، لا يتكلّم بتاتا ولماذا لم نأخذ الباص أو سيّارة أجرة!؟. الباصات ليست غالية، أقول بيني وبين نفسي. ونمشي ونمشي. نمشي أكثر من نصف ساعةٍ. لا يعجبني لقمان هذا في حلب أبداً. هو أيضا نمرٌ مرقّط ببذلة وضعيف...!!
- عامودا مثل ماكوندو غابرييل غارسيا ماركيز، فقط يلزمنا ماركيز ليكتب الواقعيّة السحريّة.
- ها عبدالحليم يوسف يكتب عن حجّي يحيى وديغول والميرا وكيركيغارد..!
- قصائد جميل داري مثل البغال متعبة، لا تقدر على الركض تتهالك بعد أقل من خمس دقائق في حلبة السباق، هذا ليس رأيي. هذا رأي شيخ عفيف في عامودا. يقهقه لقمان في مقهىالقصر..
- قصائد لقمان ديركي ضعيفة لغويّا وهي تقليد لسليم بركات. لم يقل شيخ عفيف إنّ قصائدي كالبغال بل كالأحصنة المطّهمة لكنّها في حلبات السباق تكون قويّة وسريعة الرّكض في البداية ولكن تتعب بعد دورة أو دورتين وهذا ليس مثلبا لها..غير ذلك فهي تلفيقات لقمان...
آخذ معي حين نرجع إلى عامودا رائحة عفونة، لا أدري  هل هي آتية من آنية الياسمين أم من قنوات مراحيض حلب. آخذ معي ابتسام مها والغيرة عليها بدون أنْ أقع في أيّ حبّ. آخذ أيضا كتاب الأواني المستطرقة وأمّي ترجع بنظّارتها السابقة.
- انظر إلى عيوني خلف العدسات الغليظة، إنّها كبيرة مثل عيون البقر..!
- أمّي، لا أحد يأتي ويقترب منك من الناحية الأخرى من العدسات ولا أحد يعاين ويعرف أنّ عدساتك هكذا غليظة..!!.



























جوهريّات
"لا تذهب يا"جوهر" إلى عامودا، فإنّ أهلها شقّالون وبقّالون...!!"

تحذير:
لقد رجع" جوهر" من ألمانيا إلى قريته...!!
إنّه يقرفص هناك أمام الباب ثانية. إن ذهبتم إلى عامودا فلا تكملوا الطريق إلى "جوهريّة"، تلك القرية القريبة من عامودا، خلف "القلاج" باتّجاه مدينةالدرباسيّة وإن ذهبتم إلى " جوهريّة"، فلا تمرّوا من أمام بيت "جوهر"!!.

                  
في الأيّام الأولى من تقديمنا طلب اللجوء في ألمانيا، كنّا نتجمّع إلى بعضنا البعض في معسكر اللجوء أو "الهايم" كما يقال له بالألمانيّة. الغرفة كانت تمتلىء بالضجيج والأحاديث والمزاح والسياسة والجد.
- كنتُ أوزّع المناشير السياسيّة في الّليل الحالكِ مجازفا بالدراسة وبحياتي، متحدّيا المخابرات. إلى أن ألقي القبض عليّ وأمضيت ثلاث سنوات تحت التعذيب في فرع فلسطين..
- كان أحدُ المخابرات يمتلك حصّادة وأجبرني أن أقوم بتصليحها وهكذا فقدت أصبع السبابة أثناء القيام بذلك...
- كنت سائق تكسي في حلب وذات يوم نقلت أحدهم وكان أيضا من المخابرات وحين لم يدفع الأجرة، صفعته بقوّة ودفعت جرّاء ذلك أربع سنوات من البهدلة والمطاردة إلى أن استطعت أن أفرّ إلى ألمانيا...
جوهر أيضا جالسٌ على سريره بالقرب من باب الغرفةِ، يدخّن سيكارته كالعادةِ بشرود ولكنّه يستمع إلىالأحاديث .
- وما الذي كنت تفعله أنت يا جوهر في "الوطن"..!!
- وماذا كنتُ أفعل "شيخ"! كنت أقرفصُ أمام الباب وأتفل في وجه الذين يمرّون من أمامي!!
- الحمد لله أننا لم نمرّ من أمامه آنذاك في جوهريّة!!
 يقول صديقي" برزان" هذا، ممتلئا بفرح حقيقيّ لحسن حظّه...
بقي جوهر في غرفتنا المشتركة أكثر من سنة. أنا وجوهر في مدينة "لاتزنْ". كان يستيقظ في الساعة الواحدة  ظهرا، بعد أن يستيقظ، يصنع الشاي الداكن الغليظ، يجلس على السرير ويدخّن راميا برماد السيكارة على أرض الغرفة، مستمعا أثناء ذلك إلى أغاني" كاويس آغا" ومردّدا بعض المقاطع. بعد ذلك يذهب إلى سوبرماركت " نيتو" القريب، يشتري دجاجة مثلّجة، يطبخها مع البرغل في أقلّ من عشر دقائق. يأتي " برزان" و " فرهاد" بصدفة أو بغير صدفة في هذا الوقت بالضبط ونلتهم جميعا ما طبخه " جوهر"
- والله أنت طبّاخ رسميّ، كم حاولت أن أطبخ برغلا كهذا بغير أن أنجح في ذلك ولو لمرّة واحدة...
يقول " برزان" ناظرا إلى " جوهر" بحبّ وغبطة كبيرين ويكمل
- "شيخ" من أين دبّرت " جوهر" هذا الرّائع، هل كنتما تعرفان بعضكما البعض في "عامودا"أو" جوهريّة"؟
- لا قدّر الله! ألا تعرف النضال الذي كان يقوم به، مقرفصا أمام الباب!!
- كانت مهنة وعملا رائعا للغاية، فريدة من نوعها..
يعقّب " فرهاد"
- لكن لِمَ غرفتكما مغطّاة في كلّ ركن بورق المرحاض الممزّق..؟!!
- إنّه "جوهر" يدخله إلى أنفه، منظّفا به مخاطه ويرميه بعدئذ على أرض الغرفةِ..
أقول ذلك بصوت مرتفع قليلاً وغضب ليشعر جوهر بعيبه ولا يكّرر ذلك ثانية. لكنّ جوهر يتابع الأكل ويقول:
- "شيخ"، عائلتنا هي التي أسّست حزب" يكيتي". أتذكّر، كنّا بضعة شباب في القرية، وكلنّا أبناء عمومة. ونحن أيضا الذين آوينا الكورد حين هربوا من تركيا في اسطبلاتنا، في اسطبلات حميرنا. آوينا أهل "عامودا" السرختيّين. كانت أمّي تقول، لا تذهب يا"جوهر" إلى عامودا، فإنّ أهلها شقّالون وبقّالون...!! وكم أمّي كانت مصيبة في ذلك...!!
استمرّ جوهر في ممارسة عادته في الطبخ والتدخين في السرير ورمي الرماد وورق المرحاضِ وأكياس السوبرماركت والأظافر المقصوصة وقناني البيرة وقطرميزات المكدوس والمخلّل وأعقاب السكائر في الغرفة، غير مبالٍ على الاطلاق بنصائحي الليّنة والعنيفة أحيانا. أراد صديقي " فرمان" في الجانب الآخر من الهايم أن يخّفّف عنّي، وهو الذي كان يقول عن نفسه بالصورانيّة" أنا فرمان من عشيرةالخوش ناو، أجعل الجمال والحمير بشرا"
- أريد أن يأتي "جوهر" إلى غرفتي. أحبّ نكاته وسأعلّمه بطريقتي، كيف يصبح نظيفا ويهتمّ بالغرفة وبنفسه أكثر. أيضا أحب البرغل وأريد أن أتعلّم منه طريقته في طبخه..!!
- حسنا.. خذه وأعطيك فوق ذلك مئة مارك!!
حين يأخذ جوهر سريره منتقلا به إلى غرفة" فرمان"، تبقى كومات من الزبالة كانت مرميّة تحته. ويجيء جارنا" علي" الأيراني لحاجة ما، وحين يرى ذلك، يقول، كم جوهر شخص " كثيف"!!.
مرّت عدّة أيّام وارتحت قليلا من "جوهر" لكن جاء " فرمان" إليّ ذات يوم:
- يا هو.. لقد جعلني" جوهر" نصف حمار، أنا الذي يصنع من الحمير بشرا!. إن بقي عدّة أيّام أخرى في غرفتي، فسأصبح حمارا بذيل وأبدأ بالنّهيق.. رجاء .. فليرجع إلى غرفتهِ..!!
 
بعد عدّة أسابيع يصبح من حقّ"جوهر" أن يستأجر بيتا في" هانوفر" ويغادر الهايم. أفرح من ناحيةٍ بهذا الآمر ومن ناحية أخرى، أعرف أنّي أيضا اعتدت على "جوهر" ومغامراته وعاداته وتصرّفاته النادرة. يأخذ" جوهر" حاجيّاته ويذهب، لكن لا تمرّ عدّة أيّام إلاّ ويتلفن:
- " شيخ"، هل أنا شخص هكذا سيء!! ما الذي سيقوله الشيخ عفيف إن علم أنّني أسكن في شقّة وأنت لا زلت في ذلك الهايم القذر السيء !! لماذا لا تأتي بأغراضك وتسكن أيضا عندي. البيت واسع وافعل ذلك "رجاء" سريعا، قبل أن تصل هذه الأخبار إلى عامودا ويعلم أبوك الشيخ عفيف بذلك ويكوّن رأيا سيئا عنّي..!!
أفعل ما يطلبه"جوهر" منّي وأعلم بعد عدّة أيّام، لماذا أراد أن أنتقل من الهايم وأسكن في شقّته. الرسائل التي كانت تأتيه من السّوسيال كانت بالألمانيّة ولم يكن يفهم منها شيئا وكان يُدعى إلى السّوسيال أيضا ويحتاج إلى مترجم..!! ترجمتُ طبعا له الرّسائل ورافقته لأكثر من سنة جيئة وذهابا إلى السوسيال وغير السوسيال وحملت معه الأثاث والكراسي والمخدات والطاولات والتلفزيونات التي كان يبدلها كلّ أسبوع وأحيانا في أقل من أسبوع، راميا ما كان يملكه على الشارع وآخذا ما كان يرميه الألمان من الأثاث والبسط المستعملة ومشاجب الألبسة. والشقّة كانت في هذه الأثناء قد أصبحت تقريبا فندقا. يذهب شخصان فيأتي خمسة. ينام بعضهم في المطبخ، بعضهم يتفرّج على التلفزيون، آخرون يقلون البيض أو يشربون الشاي. و"جوهر" يستمتع ويقول:
- أنا شخصٌ كبيرٌ" شيخ"!! نحن الذين آوينا السرختيّين في اسطبلات حميرنا وبقيت حميرنا المسكينة تحت البرد والأمطار...
ينظرُ إلى الشبّاك المطلّ على الشارع ويضحك مع نفسه أو يقهقه...
أتعب بعد فترة من الحياة على هذا النحو من الفوضى والشقّة لا يبقى فيها مكان راحة من الازدحام والضجيج والزوّار وكورد سوريّا والعراق وتركيا وأيران. أغضب أيضا من جوهر الذي لا يتعلّم الألمانيّة وفي دورة اللغة التي أجبره أن يسجّل فيها وأرافقه في الأيّام الأولى إليها، حين يكون عليه أن يقول حرفا بالألمانية، يقول، حرف الباء وحين تطلب منه المعلّمة أن يأتي بمفردة ألمانية تبدأ بهذه الحرف، يقول" جوهر"
- برغل...!!
فأنتقل إلى غرفتي في الهايم في لاتزن.
يزورني "فرهاد" في "لاتزن"
- لقد رأيت جوهر في " كروبكه" وقال لي:" إنْ رأيت الشيخ، فقل له، "الكلب الذي لا يصلح لصاحبه، لايصلح لأيّ أحدٍ قطّ!!". إنّه غاضب منك ، يقف في" كروبكه" ويقول للناس الذين يلتقي بهم، ممّن يعرفونك أو لا يعرفونك،" شيخ عفيف هو الذي جعل من كورد سوريّا أجانب وهو الذي مسح أسماءهم أثناء الاحصاء وبذلك صاروا مكتومي القيد أو أجانب.." . ما الذي جرى بينكما..؟
- لم أعد أطيق حماقاته، هذا كلّ شيء..
يعلم" جوهر" أنّي مغتاظ منه وأنّني سمعت الاشاعات التي وزّعها في هانوفر ولكن تبدأُ معدته بالوجع وعليه أن يراجع الطبيب ويحتاج إلى مترجم، فيأتي إليّ في " لاتزن"
- "شيخ" لماذا عدت ثانية إلى هذا الهايم القذر!!؟. أعرف... كي تنكح " فراو فيشمان" تلك المرأة التي تسع مؤخرتها لتنكة تبن!! ..!! وتلك الأقاويل التي ربّما سمعتها هي فقط من قيل وقال سرختيّي " عامودا" الذين يبيعون العلكة ويتزوّجون من عمّاتهم!! معدتي توجعني من بلاء حبّ" شيرين" وأمّا ألمانيا فلم أجد منها خيرا..
أرافق جوهر عدّة مرّات إلى الطبيب، يفحصه الطبيب ويقول أنّ معدته سليمة وأنّ الآلام التي يدّعيها هي وسوسات نفسية، لاغير. لكنه لايقتنع بكلام الطبيب ويقول، ذالك الطبيب حمار، لايفهم صنعته وخلال شهر واحد أرافقه إلى العشرات من الأطباء، دون أن يجد أيّ طبيب مشكلة في معدتهِ...!!
أمضي أيّاما في شقّة جوهر وأخرى في الهايم. آتي في أحد الأيّام من" لاتزن" إلى كروبكه، فأجد جوهر قاعدا هناك، يدخّن. أجلس إلى جانبه وأقول له:
- " جوهر"، تقول أنّ الأطبّاء لايفهمون مشكلة معدتك ولا يعرفون علاجا لها. برأيك كيف ستصحّ معدتك..؟!!
- لو سرحت ومرحت  قطعان الماشية هنا أمامي بدل هؤلاء الناس في "كروبكه" لكانت معدتي ستشفى..!!
"كروبكه" هي مركز هانوفر الأوحد. معروفة في كامل ألمانيا. حين تذكر هانوفر، فالكلمة الثانية هي "كروبكه". يتواعد النّاس والعشّاق ويزدحم المكان مساءً بالمتواعدين، بالفتيات الجميلات، بآخر صرعات الألبسة والموديلات. بعري كثيرٍ في الصّيف..
ويجلس"جوهر" هناك كلّ مساءٍ، مدخّنا، متأمّلا في الأفخاذ والسيقان الألمانيّة...!! مغمغما
- آخ " شيرين"، لقد خرّبتِ معدتي..!!
تشفى بعد مدّة معدةُ جوهر، يسمن أيضا لكن الأمر لا يطول، يصاب بآلام أخرى أو وسوسات أخرى، فيقرّر العودة النهائيّة. نكون في" هانوفر"، جمع من العزّاب والمتزوّجين، سعيدو، بركات، سيامند، آزاد وآخرون. "جوهر" يتوسّطنا..
- أنا جائع، فليعطِني كلّ واحد منكم خمسين سنتا، لأشتري لي "دونرا". واسمعوا كلامي جيّدا وصدّقوني. ارجعوا أنتم أيضا، ما الذي تفعلونه في ألمانيا!!. أنتم العزّاب لن تستطيعوا الاغتناء أوالزّواج، ستصابون بالإيدز أو تصبحون مدمني حشيش ومخدّرات وأمّا المتزّوجون، فمصيبتكم أكبر، زوجاتكم سيتخلّينَ عنكم وأولادكم وستصيرون عجائز ومع الزّمن لوطيّين وحتّى إن دفعتم على أنفسكم، فلن ينك...!! هذه هي قوانين ألمانيا...!!
 
نعطي جوهر كلّ واحد منّا خمسين سنتا، يذهب لشراء " الدونر". وبعد ذلك لا نراه ثانية في هانوفر...
البارحة التقيتُ برزان صدفة في" كروبكه"
- أتعرف" شيخ"! يقولون أنّ جوهر الآن في "جوهريّة"، يقرفص ثانية أمام البابِ، يدخّن، لا يتكلّم ... وإن مرّ أحدٌ بالصدفة أمامه، فأنت تعرف...!!!







زمبتطرمبا

لأجل وليد شويش
 
 
- أوسي شارو كير خيّارو...أوسي شارو كير خيّارو...
- سأنكحُ أمّهاتكم واحداً واحداً... زمبتطرمبا.. آمممم فووووووب...
فيهرب الأطفالُ والأولاد وكبار السنّ أيضا من بينهم باتّجاه الجامع الكبير. ثمّ بعد لحظاتٍ يأتي الجمع ثانية ويصيح:
- أوسي شارو كير خيّارو... أوسي شارو كير خيّارو..
عندئذ يخرجُ أوسي شارو متكئا على عصاه إلى عتبة البيتِ، يرفع عصاه أمام فخذيه بشدّة
- هكذا سأنكحُ أمّهاتكم واحداُ واحداً، زمبتطرمبا...آممممم فووووووووب
ثمّ يضعُ عصاه جانبا ويدخل إبهام يده اليمنى في فمه، يدفعها من داخل الفم إلى الخد بحيثُ ينتفخ خدّه ويتورّم، تبقى الإبهام في فمه للحظات ثم بتشنج يخرجها من زاويةِ فمه اليسرى فيدوّي صوتُ: آم فوووووب، بعد مسبته تلك لأمّهاتنا المسكينات...
بين بيتنا وبيت خالي أوسي شارو عدّة خطوات، مسافة خمس دقائق بالمشي. جدار الجامع الكبير في عامودا هو حدود بيته الشّمالية. وكلّ مراحيض الجامع وعددها خمسة عشر مرحاضا تقع هناك وأيضا صومعة الشيخ عيسى تحت خزّان ماء الجامع. إن زرت الجامع الكبير آتيا من سوق عامودا فعليك اجتياز ممرٍ، على الجانب الأيمن منه المراحيض. وتحت خزّان ماء الجامع يقبعُ شيخ عيسى تاركاً الدّنيا وأهواءها منذ أكثر من ثلاثين سنة. راهبٌ طويلُ القامة، بلحية زرقاء. إنّه من الكورد السرختيّين، من كورد تركيا. عيناه تبرقان ووجهه جدّي، صارمٌ غالبا. حين يخلو الجامع من المصلّين يخرج الشيخ من تحت خزّان الماءِ ويفترش إحدى السجاجيد، في الجهة المقابلة للمحراب
- إنّهم ضالّون مشايخ عامودا، فاسدون... لا يرشدون الناس بطريقة صحيحة. سمعت أنّهم أحلّوا للناس التفرّج على التلفزيون الذي يعرض أجساداً عارية، نعوذ باللهِ... نعوذ باللهِ. فسدت الدنيا، فسد الناس..القيامة قريبة، أقول لكم، القيامة على الأبواب. به نعوذ، به نعوذ...
هذا حين يكون في المسجد وحيدا تماما، يقولُ ذلك بصوتٍ عالٍ ويتردّد الصّدى، فتشعر كأنّ شيطانا حقيقيا دخل المسجد من ناحية القبّة ويعظ الجنّ الآخرين الذين يسكنون هواء ما بعد صلاة العصرِ
أو حين تعبر الممرّ من جهة المسجد الجنوبيّة فتسمع فجأة
-         مدد، الللللللللله......اللههههههههه مدددددد!! نعوذ بالله، به نعوذ. هووووو,هوووو!!!
هذا ليس صوت بشر، هذا ذئبٌ نزل من الحدود، ذئبٌ جائعٌ لينهش الخراف والناس والحجارة. بصوت قادر أن يصيب بعض مصلّي عامودا الكهول بالسكتة القلبيّة خوفا ورعبا.
- مدددد، أجساد عارية، أفخاذ عارية، أثداء بيضاء عارية، أذرع بضّة عارية، عري في التلفزيونات، عري في الشوارع ، مددددددد..
-         والله عضوك صار قماشا مثل غلابيّتك ولا يقوم بعد...
يقول عصمتو هذا ويمدّ بيده إلى غلابيّة أوسي شارو الترابيّة، فيتباغت أوسي جدّا وتجحظُ عيناه وتحمرّان ويرتجفُ بدنه الكهلُ كلّه، يرفع عصاه ويهزّها باتّجاه عصمتو الذي يكون قد ابتعد إلى مسافة آمنة في هذه الأثناء.
- عضوي مثل عصاي هذه...قوي وينتصب!!
يدخل الناي إلى تحت الغلابية ويمسك به ويرفع الغلابيّة ويهزها هزّا شديدا ثمّ يضع إبهامه في فمه ويبقيها لثوان ثمّ يخرجها مبتلّة بلعابه الذي يتطاير من الإصبع ومن فمه ويصيح
- فووووب، آم فوووووبب... زمبتطرمبا...فووووووب...
تحيطُ مراحيض الجامع الكبيرِ ببيت أوسي شارو من الشّمالِ، من الشرقِ بيت جارنا سينو بالنَّقّب أو الممر، من الغرب الشارع الذاهب من السوق باتّجاه الجامع الكبير وفي مواجهته بيت صوفي عمر. بيت أوسي شارو يقع في الزّاوية. وعلى الجانبِ الآخرِ من الشّارع بيت ملا حسن. بيتٌ ذو طابقين من اللبن، عرائش العنب تغطي كامل الحوشِ والنّحل بألوان صفراء ومرقّطة يصول ويطير ويجول كأنّ العالم هو عالم نحل وعنب أصفر وأحمر وخمري وداكن. البيتُ ذو طابقين أو بطابق واحد وقبو نصفي. ومن الشارع يستطيع المرء أن يرى الحوش كله بدوالي العنبِ وسطول اللبن وأيضا أوراق الكرمِ مبعثرة حين تهبّ ريح ما. جدار بيت أوسي شارو مبني من علب التنك التي جمعها من أحياء وأسواق ونفايات عامودا. تنكٌ بفعلِ المطر مصدأٌ وفي بعض البقع يبرق أيضا تنك جديد. في الأعلى من الجدار بنى الحمام المنزليّ الذي يربيه أولاد أوسي شارو أعشاشه. أيضا رفوفٌ من الخشب، مساند يتجوّل عليها الحمام البنيّ الداكن الذي له في أسفل السّاق أرياشٌ باتّجاه الخلفِ ويسمّى حمام الشلّستو أي الحمام ذو الموديل المعروف للبناطيل الفضفاضة ناحية القدم. وعلى ارتفاعٍ قليل فوق الجدار هناك حمام يقلب نفسه في الهواء ويسمّى الحمام القلاّب. أنظرُ إلى الحمام الشلستو ولونه الأسود وأقول، لا يملك أيّ بيت في عامودا حماما أسود دامسا هكذا من عصير الدبس مثل بيت أوسي شارو. أيضا أرى في الهواء كيف تقلب الحمامات أنفسهنّ وأقول، لا تقدرُ أيّة حمامات قلب أنفسهنّ كما هذه الحمامات...!!
- حين كان الفرنسيّون يحتلّون أرض عامودا، كنتُ مع الثوّار أقاتلهم بضراوة وأيضا كنتُ أتحايل على ضبّاطهم وأضاجع زوجاتهم الفرنسيّات الرقيقات. الكثيرون يعرفون عنّي ذلك، كنتُ أدخل بيوتهنّ بقصد العزفِ على الناي وثمّ آخذهنّ إلى حقول اليقطين في عامودا وهناك بعضوي هذا الشديد الذي لازال ينتصب حتى في هذه الأيّام والذي هو طويلٌ مثل عصاي هذه كنتُ أمرّ به على الأفخاذ الفرنسيّة العارية البيضاء وأدلي به فيهنّ، فيتصاعد أنين شهوتهنّ في الحقولِ تحتي مثل صوت نايي هذا...!! و
-  زمبتطرمبا...آم فوووووووووب.........
- والله أوسي شارو عضوك صار خرقة مثل غلابيّتك هذه ولا يقوم بعد...!!
- أوسي شارو كير خيّارو.. أوسي شارو كير خيّارو
يتعالى صراخ الأولاد في الحارة حتى يصل إلى خزّان مياه الجامع الكبير
- مدددمدددد، أجساد عارية، أفخاذ عارية، أثداء بيضاء عارية، أذرع بضّة عارية، عري في التلفزيونات، في الشّوارع، آآآآآآآآخ.....آخ آخ .....آخ.......!!!














تمثالان،
لغوته وللخوجا نصرالدّين

حين تصلُ سيّارتنا إلى فايمار، يرانا غوته بالقربِ من سورِ حديقته. يرانا لكنّه يبقى جالسا. إنّه في سنوات شيخوخته، متعبٌ قليلا ومضعضعٌ، لكنّه متأنّقٌ وفي الأعلى أبصرُ أبراجَ مكتبة آنا أماليا وأيضا وكأنّ عيني ناظور أرى بقعا صفراء من النار حولها وأيضا إحدى مجلّدات الدّيوان الشّرقي للمؤلّف الغربي.
- سيّارتكم رائعة، لقد طلبتُ من وزير الثّقافة أن يشتري لي سيّارة من هذا النّوع لأقوم برحلة ثانية إلى إيطاليا لكنّه نسي الموضوع، وها ترونني أمضي عطلتي الصيفيّة في فايمار. أشتغل على قصائد باللّغة العربيّة وأحاولُ بين الفينة والفينة كتابة رباعيّات بالفارسيّة. وثمّ ينظرُ إليّ مليّا
- أهلا بكم في فايمار... كنتُ أحدس أنّكم قادمون. أنت – مشيراً بسبابته إليّ- ستنقل هذا اللّقاء إلى العربية والكورديّة. ورزا سيقصّ لي نكت الملا نصر الدين الذي يقال له جحا بالعربيّة وهولغر يستطيع أنْ يطبخ طبخة صحيّة، الكثير من البقوليّات وزيت الزّيتون ولا تنسَ – أحبّ النبيذ الاسباني جدّا، هل جلبتَ لي منه بضعة زجاجات؟ سأطلب من الخادم أن يدفع لك ثمنها، حين تغادرون إلى هانوفر. وبخصوص هانوفر- كم هم شعب بعيد عن الثقافة، أحس بهم وكأنهم حمقى، يتكالبون على الصناعة ويهملونني. وطبعا ليس من قبيل الغيرة، لماذا لم يصنعوا لي تمثالا ويضعوه إلى جانبِ تمثالِ شيلر في مقابل المكتبة التي فتحت العامِ الماضي هناك بين كروبكه وشتاينتور، أعني مكتبة فايلاند! يا لهم من بلهاء أهل هانوفر!!
حين يقولُ غوته ذلك ويتّهم أهل هانوفر بالبله والحماقة، أصمت وأنظر إلى هولغر، هو أيضا لا يفتحُ فمه كالعادة.
ينادي غوته إحدى خادماته ويطلب أن تحضر لنا فناجين القهوة. نجلس بالقرب منه ويقصّ رزا إحدى قصص جحا
-         بينما كان جحا نائما، ولج بعض اللّصوص إلى بيته تحت جناح الظّلام. سمع جحا الخشخشة واستفاق لكنّه لم يحرّك ساكنا من الخوف الكبير الذي استولى عليه. جمع اللصوص كل شيء من بيت جحا ما عدا السرير الذي كان نائما عليه واللّحاف وخرجوا.. بعد أن خرجوا بعدّة دقائق، لفّ جحا اللّحاف مع الشلتة التي كان ينام عليها وتبع اللصوص سريعا. في إحدى الأزقّة التفتَ اللّصوص وإذا بجحا يتبعهم حاملا سريره على ظهره، صاحوا به: ماذا دهاك، لماذا تتبعنا هكذا؟ فردّ جحا: ألسنا ننقل البيت!
حين انهى رزا قصّة جحا، انفجر غوته مقهقها وجفلت إحدى الأحصنة التي كانت تجرّ حنطورا بالقرب منّا. ثمّ طلب من رزا أن يعيد قصّ نفس الحكاية. فأعاد رزا الحكاية ثانية. كما في المرّة الأولى، لم يتمالك غوته نفسه وغمره ضحك استمرّ خمس دقائق كاملة. بعدها صمتَ قليلا وقال:
-         الكثير ممّا يكتبُ حاليا في ألمانيا لا يرقى إلى مستوى هذه القصّة البديعة، آه، لو اتّخذ الكتّاب الألمان لهم جحا مثلا في الابداع وخاصّة صديقي شيلر المنهمك في المثاليّات وقصص الثّورات والبطولات. هل تعلمون أنّني الآن منشغل بوضع كتاب عن سيرة جحا وطبعا سأضيف هذه القصّة التي رواها رزا للتوّ إليها.
-         هير فون غوته، سأذهب بعد شهرين لزيارة أهلي في ايران، هل لك طلب محدّد لأجلبه لك من هناك
-         أحقّا، يا لها من بلاد رائعة، الحضارة الفارسّية العظيمة، صديقي سعدي شيرازي. اجلب لي مثنوي معنوي لمولانا الأكبر جلال الدين الرومي. أيضا عدّة كيلوات من ذلك النوع من التمر الذي بدون نواة، كم أحبّه وقد وصفه لي الأطباء لتقوية الشهوة خاصّة في هذه السنّ. لو خيّرتُ أن أكون غوته العظيم أو هارون الرشيد، لاخترت أن أكون هارون الرشيد. كم هي متعبةٌ الكتابةُ، لكنني حاولتُ أن أمزج بين فضائل أمثال هارون الرّشيد والأدبِ. خلقتُ أدبا مثلُه الأعلى هو الشّهوة ونيران الشّهوةِ. وتبّا لهم، هؤلاء الرومانسيّون، المسلولون، المرضى بالحبّ وحيث لا يوجد حبّ بدون شهوة جنسيّة، أقصد الحبّ هو جنس فقط... والآن.. انفضّوا من حولي..!!.
قمنا من على كراسيّنا وتوجّهنا إلى الشّارع الرئيسي في فايمار. تجوّلنا بعدئذ في أزقّة المدينة. الجوّ كان صيفا، الأشجار مائلة على أسوارها والحجر متبرعم في أقصى زاوية. كان هناك الكثير من الأشجار التي لم أرها قطّ. توقّفنا قليلا بالقربِ من مقهى يسمى مكسيكو. الشّوارع كانت مليئة بالسياح والحناطير كانت تأخذهم في جولات في ضواحي المدينة الصّغيرةِ أصلاً. فايمار صغيرةٌ، طراز معماريّ ألماني، في الشرفات أصص ورود بآلاف الألوانِ. في الأزقّة، على الجدران مكتوب على صفائح معدنية أسماء الكتّاب والفلاسفة الذين أمضوا أيّاما أو مرّوا بهذه المدينة مرورا سريعا. هناك مجموعات سيّاح يتمّ عرض المدينة وآثارها وتاريخها لهم من قبل أحدِ مرشدي السياحة. وعربات بأحصنة تقودها فتياتٌ جميلات في الأزقّة. أيضا لفايمار نهرٌ يقسّم المدينة وإلى اليسارِ منه مكتبة آنا أماليا التي احترق الكثير من كتبها قبل عامين. غوته يملك أيضا بيتا صيفيا على الجانب الآخر من النّهر يسمى غارتن هاوس، البيت الحديقة، فيه تقريبا كلّ أنواع زهور العالم، جلبها غوته من البلدان التي أمضى سياحاته فيها. وهو بيتُ شهوة. البيت الحديقة مبني على تلّ وللوصول إلى هذا البيت ينبغي قطع النهر ويتم ذلك بالمرور عبر صخرة مثقوبة ثم جسر صغير. بعد ذاك درب بسيط وفي الأعلى يبدو البيتُ مرتفعا على التلّ والصّيفُ في كلّ شيءٍ. في الحديقة البيتِ، الأشجارُ بأزقّتها تكوّن مكانا يخفي عن الأعينِ، هناك مقاعد ليستريح عليها العشّاق ويتبادلوا القبل في الّليلِ- ليمتصّوا بعضهم البعض إلى أن يأتي الصّباح ويغوروا في لذائذ الأبدانِ ولهبها.
جلسنا قبل أن نتوجّه إلى هانوفر في المقبرة، حيثُ زوجة غوته مدفونة. كنّا نريدُ زيارة قبر غوته أيضا ولم نجده ولم نسأل أيّ أحد عنه وكأنّما كانت رغبة خفيّة فينا تمنعنا عن ذلك. توجّهنا إلى هانوفر مفكّرين: حقّا هانوفر تحتاج إلى تمثال لغوته
-         وواحد للخوجا نصر الدّين،
هكذا يكمل رزا...

















 خطفك لي كان ذا نكهة التبغِ
 
يتمدّد جدّي في تابوتِهِ. رجلاهُ متّجهتان إلى شجرةِ توتِ الباحةِ التي تزوّج خالي نصر الدّين تحتها. تمّ نصب كرسيّين لزوجة خالي ولخالي نصر الدّين للزواجِ تحت شجرة التّوت وتبادل الخواتمِ والنّظرات. خالي نصر الدّين بشعره الأشقر وقامته الطّويلة. يتمدّد جدّي الشيخ شيخموس الكبير في تابوتِهِ وأنا لم أكن أعرفُ جدّي حيثُ فقط أدركتُ أنّه يموتُ وبعدئذٍ في الطّريقِ إلى بيت جدّي رأيت تابوتَه الأخضر بسبب من القماش الذي جلبه الملالي ووضعوه عليه. قماش كانت تقع عليه أشعّة الشّمس فيبرقُ. سلطي إنّي أختنق في هذا الضيق، أين درّاجتي لأضع هذه الأخشاب عليها وأرميها بعيدا في البراري أو على القاذورات. أنت ميّت يا شيخي، لقد استرحتَ وتركتني لوحدي أتجوّل بين بناتي السبعة بين نجموك وهرمي عربا وعامودا والقامشلي. سلطي لا تدخّني ذلك التبغ الجافّ هكذا بشراهةٍ، بدلا عنه تسلّي بشيءٍ آخرَ. واخطبي فتاة من الملالي لابننا نصرالدّين وواحدة من بيت الشيوخ لابننا الأكبرِ مدني واعتني بمحمدو فهو يعرفُ قصّتنا. وجدتُ فتاةً في حارة الملالي لابننا نصرالدّين، إنّها نجمةٌ تشعُّ في النّهارِ. وأمّا مدني فهو واقعٌ في حبّ نورا ابنة قريبنا الشيخ عبيد الله صاحب التكيّة الصوفيّة والسيخ الربانيّة ومقامات الذكر النقشبنديّة في أيّام الخميس والآحادِ. ولكنني لم أفهم ما قلتَه عن محمدو ومعرفتِهِ بقصّتنا، إنّه في الخامسة عشرة من العمرِ . سيكتب ذاتَ يومٍ أنني خطفتكِ على الكرسيّ الخلفيّ من دراّجتي الفليبس وأنّك كنتِ في الطّريقِ تدخّنين تبغ "خرسي" ذلك التّبغ بخطوط وأسلاك الذّهب ويحزن في السّويد. وأنّني دُفنتُ في دنّ من التّراب الأحمرِ الذي تصنعين منه التنانير،  خالطة إيّاه بشعراتِ معزاتك! فليكتب محمدو ما يشاءُ. إنّني مشتاقةٌ إليه. ألا تعلم أنّه في السّويدِ منذ عشرين عاما ولديه خمسة أطفالٍ. لا تأكل همّ خيالهِ واسترح في تابوتك الأخضرِ الجميلِ. لقد أتى الملالي، أقرباء زوجة ابننا بكثيرٍ من القماشِ الأخضرِ وفرشوه فوق الباحةِ كلّها ومن كلّ ناحية من نواحي عامودا، يستطيع المرءُ أنْ يبصر موتك حيث الأخضرُ المبارك يرفرفُ. إنّه رمز عائلتنا الكبيرةِ الممتدّة في كلّ الجزيرة. أحفادك كثرٌ من بناتي السبعة ومن ابنينا. خيركَ كان عليّ كبيرا وخطفك لي كان ذا نكهة التبغِ. ثانية سلطاني وأنا في صندوقي هذا الأخضرِ أشتاق وأريدُ أن أخرج وأخطفك ثانيةً ليكتب عنّا حفيدنا محمدو من خيالِهِ، أنّني خطفتكِ حتّى وأنا ميّت ممدّد ورجلاي متّجهتان إلى ناحية شجرةِ التّوت التي تزوّج تحتها ابننا الأصغر نصر الدّين. أشتاقُ إلى الدرّاجة وهي تحملنا إلى عامودا، حيث قلبي يضربُ بقوّة من الخوف والفرحِ يا سلطانتي. لكن هل ذكر في نصّه عنّا، أنّني خطفتك على درّاجة من نوع فليبس أم من نوع آخر. شيخي شيخموس سؤالك هذا هو سؤال حفيدنا الآخر الذي يتدخّل الآن بيننا، الذي سمع أنّك تموتُ وهو صغيرٌ وكان يخافُ من الموتِ وحين أتى إلى بيتنا ورأى هذا القماش الأخضر الكثير الذي جلبه الملالي معهم وكسوا به حتّى حنفيّات الماءِ، فإنّه تردد وخاف والآن بعد ثلاثين سنة يمزحُ ويريدُ أنْ يعرف، على أيّ بسكليت خطفتني وهو يحبّ الدرّاجاتِ الهوائيّة. من حقّه أنْ يتدخّل في حديثي، خاصّة أنّه يشبهني في حبّه للدرّاجاتِ وأشجارِ التّوتِ. وللأسفِ لم يدركني إلاّ وأنا أحتضرُ وقماشي كبيرٌ أخضر يظلّل كلّ الحارةِ بلون البركةِ. لابأس أن يشارك في موتي على طريقتهِ ويتحدّث هكذا في حديثنا. تتمدّد جدّتي على سريرِ موتها وزوجات الملالي يتجمّعن عليها وينصتن إلى حديثها مع جدّي شيخموس ولا يفهمنَ شيئا عن مسألة الأحفاد والسّويد وأنواع الدرّاجات الهوائيّة.
يرى محمدو ذلك ويرى جدّتي تنحني على جدّي بدموعها و ببسمة مليئة بالأسفِ على زوجها ورفيقها وعاشقها الشيخ ذي الأقرباء الكثرِ،  متذكّرة نفسها على كرسيّ البسكليت الخلفي منطلقة وراء جدّي إلى عامودا، تدخّن سيكارة وراء سيكارة والدخان يمتزج بميلانِ النباتاتِ و يصعد مع العصافير في قرى بويتخ وعامودا. يرى محمدو ذلك ويشتاقُ أكثر إلى جدّتي. يبدو أنّ محمدو نسيني "بدرية"! ألن يأتي ثانية؟  لقد أصبحتُ مشلولة الآن وأستحي أن يراني على هذه الحالةِ. أودّ أن أبقى في ذاكرته تلك الصبيّة ذات العشرين سنة وراء جدّه، أدخّن بشراهةٍ مخطوفة حبّا ورغبة في طريقنا إلى عامودا على الدرّاجةِ. بلى أمّي ... بلى...
 










التين دواء قلب الشعراء
(واي،آي دونت نو)

 
ربّما فاكهة ساقطة على الطّريق، الدرب الذي عليه الغبارُ. والغبارُ في عامودا تحت الشّجرة التي لا أعرف اسمها. في عامودا أشجار توتٍ كثيرة، التوت الأبيض والتوت الأحمر والتّوت الأسود. باحة جارنا الشاعر في حركاته وتعليقاته" مصطفى الغزلاني". ربّما الباحة قبل أن يتزوّج وبعدها بالأطفال. هناك توتٌ كثيرٌ وقطط كثيرة يحبّها الجار ويدلّلها. ربّما ثمرةُ فاكهة التّوت هي التي على الطّريق، في الغبارِ والصّيف. وذات مرّة أمينة مرّت بالقربِ من الثّمرة الحمراء. وكانت أمينة حمراء. وشفاهها حمراء ورآها خليل عبدالقادر في هرفورد. ربّما رأيتها حين تجوّلتُ في أزقّة هرفورد والآن يجدها وأجدها أنا أيضا في ملامح جمانة حدّاد.
وفي الحسكة، في رأس العين. أختي صفيّة وأختي وداد. شجرة فوق سكة الحديد وعلى الجانبين الكثير من الحصى الأسود لتمتين السكّة وأختي وداد تعيش هناك في ذلك الوادي. يمرّ القطارُ في الأسفل. لا يمرّ أيّ قطار. فقط كان مشروع قطار وككل المشاريع الفاشلة في الحسكة، لن يمرّأيّ قطاربالقرب من منزل أختي وداد. إنّها شجرة خرنوب، إنّها شجرة زبيب، إنّها شجرةُ بأغصان متفرّعة جدّا وطائرٌ بعيدٌ يأتي إليها. هناك سور في الحسكة قرب مركز المدينة في الخريف تتساقط الأوراق الصّفراء على مديرية التربية وعلى طاقية شرطي حزب البعث العربي الاشتراكي الفاشل. الشرطي فاشل أيضا مثل القطار وجائع مثل كلب جميل ويفكّر. لايفكّر الشرطي في حذائه ولا في ورقة الخريف التي تسقط بالقرب من سور دائرة الهجرة والجوازات. إنّه يمرُّ.
قبل ذلك يضع أبي الشيخ عفيف نظّارته ويريد أن يعرف من هي أمينة. أعني لا زالت أمينة تمرّ في شارعنا في عامودا وتسأل عنّي فيقول والدي إنّه في الجيش العربي السوري. يخدم هناك ويرسل لنا رسائل يتكلّم فيها عن دمشق، عن الجامع الأمويّ وعن قبر صلاح الدين الأيوبي وعن النّوفرة، عن السيّاح الفرنسيين. ويحاول أن يتعلّم الفرنسية كي يترجم فرانسوا فيللون عن الفرنسية مباشرة بدل الألمانية. تتعجب أمينة جدا وهي لا تعرف أنّي نسيتها مطلقا وأنّ الشخص الذي يحبّها بدلا عني الآن هو الشاعر ابراهيم فرمان حسّو في القامشلي. ابراهيم حسّو وضع أسس حديقة جديدة في مدينة القامشلي وكل العمّال فيها هم شعراء. أحد الشعراء ينظف الورود الآخر يسقي الأشجار وآخر يكتب وينظر وآخرون لا يفعلون شيئا سوى الانتظار إلى أن تظهر أمينة برفقة فتيات أخريات وحينها يتلفنون لابراهيم حسّو- حان لقلبك أن يقع مغشيّا عليه قرب الحديقة. يعرفون- قلب ابراهيم فرمان حسّو – لا يغشى عليه بالقرب من الفرن مثلا أو في البيت مثلا. تلزمه حديقة. أمينة ليست ولادة بنت المستكفي والقامشلي ليست الأندلس وأنتم أيّها الشعراء، أنتم كورد أوّلا وعليكم الاقتداء بجكر خوين وكتابة الشعر الكلاسيكي. يسمع ابراهيم حسو أن جكر خوين جاء إلى القامشلي منذ يومين فيذهب للقائه...
ربّما عبدالمقصد الحسيني يكون في سوق عامودا، على الكرسي الخلفي للبسكليت مدفأة يأخذها للتصليح ويلتقي ابراهيم حسّو في عامودا.
- هل رأيت جكرخوين
- البارحة جاء وقضى يوما عندي ثم عاد ثانية إلى السويد
يتأسف ابراهيم حسّو...
الكلّ ميّت في المقبرة. شواهد القبورِ تشبه العباءات السود والشيطان نفسه يتسلق شجرة الزيزفون ويصفّر لأجل قلوب الشّعراء: استفيقي يا قلوب شعراء عامودا، سأصنع لكم كوردستان – يقول الشيطان للشعراء الكورد الذين يكتبون بالعربيّة وللذين يكتبون بالعربيّة – أنتم تعرفون، سآخذكم معي إلى سرّ قوّة اللغة العربية. تنشأ لغتان، واحدة عربية مختلطة بكورديّة عاميّة وأخرى عربية تشبه الكورديّة ويتحدّث بها سكّان الأزقّة. يحتار الشعرءا أيّ اللغة أنسب لكتابة الشعر ووصف الثّمرة الساقطة على الطريق ويحتار أبي بأيّ لغة يجيب سؤال أمينة عنّي
- أتلفن له، أنا سأجيب يا أبي، السؤال يخصّني وأمينة تخصّني وليس لابراهيم فرمان حسّو أيّ شأن بها. ابراهيم حسّو لا يعرف إلا الحدائق والحمّالين ويراسل سليم بركات بتواصل منقطع النظير. فيكتب له سليم بركات – آكل يوميا جزءا من كبد كوردستان لأستطيع العيش في جليد وبرد السويد الهائل. وماذا تأكل أنت أيّها الشاعر في قامشلو كي تستطيع الكتابة؟
آكل الذكريات وأحيانا بندورة وقطعة خيار وبعض الأفكار. هذا هو طعام عماد الحسن المفضّل. يردّ سليم بركات تلفونيّا ويذهب إلى خلوته.
يبقى خليل عبدالقادر وحيدا في الحسكة. وينظر إلى الطريق. سأرسم هذه الرّيشة من ذلك الطّائر الذي اصطاده سليم بركات بخياله. يحمل الريشة ويضعها في الزيت الأحمر ويرسم. فيتشكل ناقوس بدل الريشة والطائر وينادي إلى صلاة الفجر في ظهيرة حارقة في الحسكة. يتعجّب خليل عبدالقادر ويقول سأرسم ثانية قطيعا من الغنم في براري الجزيرة. لكنّه يرسم بدل ذلك جسرا في هيرفورد. يرسم أشجارا متبرعمة في ألمانيا وهو لم يزل بعد في الحسكة. محمد عفيف – ماذا أصابني، يتلفن هكذا. – لا أعرف. يرد محمد عفيف، فقط، التين دواء الشعراء
-    آي دونت نو...!





























شفة أمينة بيضاء على ورقة الشّعر
 
 
شفةُ أمينة حمراء في الشّتاءِ.
شفةُ أمينة بيضاء على ورقةِ الأبيض.
شفةُ أمينة خضراء حين تكون عامودا في آخر الصيف وشفة أمينة لا تبدو لي حين أهيم على قدميّ ووجهي باتّجاهِ سكّة حديد قطار القامشلي. ولا أجدُ سكّة أبدا، للقامشلي سكّة حديد ذاهبة إلى حلب مارّة بديرالزور، أقصد بالصّحراء ولا أجد السكة في هذا اليوم بين الربيع والصّيف. أمشي وأفكّر. على يساري لا أجد السكّة بل بضعة أبقار وواديا بقليل من الماءِ وأعشابا هنا مبعثرة وأراض ليس بأيّة أراضٍ زراعيّة. تلعٌ صغيرةٌ وسياجات منخفضة وبيوت في حارة بعيدة من حواري القامشلي. – أمينة، أحبّك، ألا تسمعين شفتيّ، تقولان: أحبّك، ألا تعرفين معنى الحبّ، لسنا صغاراً بعد وستصبحين مدرّسة بعد سنة. – أمينة، لقد اشتريتُ لك خاتما من الفضّة بخمسين  ليرة سوريّة، اشتراه غسّان، لا أعرف  من دكّان صائغ في القامشلي. ووضعتُ الخاتم تحت مخدّتي لعدّة أيّام، لا أعرف مقاس أصابعك، خمّن غسّان أنّ الخاتم سيناسب وهو اشترى الخاتم. إنّه خاتم بسيط للغاية، لا نقوش فيه على الاطلاق. وهو من الفضّة ولونه فضي ووضعته تحت مخدّتي لليلة كاملة، لم أتقلّده في أصبعي أبدا هو لك وأريته صديقي جمعة على السّطح حيث نمتُ في بيتهم قبل عدّة أيّام. لو كانت عندي نقودٌ أكثر لاشتريتُ  لك خاتما من الذّهب ولكنني مع ذلك لا أحبّ الذّهب. يشبه الكفر وأحب الفضّة أكثر. الفضّة مثل القصائد التي كتبتها عنك وعلّقتها في جدران غرفتي. قصائد تتحدّث عن القطط والبيوت والحنين. قصائد أحيانا متلعثمة وسطور أيضا متلعثمة تتحدّث عن حبّك وأنني اشتريتُ لك خاتما ووضعته تحت المخدّة وأنني هيّأته أن أعطيه لك غدا وها أنتِ لا تقولين شيئا تصمتين وتبعدين أصابعي من شعرك الطّويل.
شعرُأمينة مبتلّ بين الصّيف والشتاءِ وشفتا أمينة شاحبتان في الصّيف في الصّفّ العاشر. – أمينة، لايجوز أن تقعي في حبّ مدرّب الفتوّة ذاك، إنّه بعثيٌّ!!
وهو أكبرُ منكِ وهو يريد فقط علاقة معك، لاأكثر. أمينة تعالي بالقربِ من حائط مدرسة المعرّي، حيث أنتظرُ مع غسّان في هذه الّليلة وأنتظر باتّجاه بيتكم بالقربِ من موتور الكهرباءِ بالقربِ من السّبع بحرات. أعرفُ بيتكم منذ عدّة سنوات. إنّه هناك، مررتُ في شارعكم بالبسكليت يوميّا، تذكّري عرس جيران من جيرانكم. كنتِ هناك. الباحةُ كانت طويلة وفي الأعلى المصابيحُ معلّقة وحين سمعتُ الموسيقى من بعد عدّة شوارع أتيتُ، خمّنت أنْ أجدك هنا. وها شفتاك شاحبتان وأنا أحبّك بكتمان شديد ولا أحد يدري عن حبّنا شيئا وتركتُ ممارسة العادة السريّة منذ أن بدأت صورتك تنطبع على قلبي ووجهي وأصابعي. أمينة، أحبّك ولا أعرف، لقد انتظرتُ سنتين كاملتين دون أن تعرفي أنّني أفعل ذلك و حين تكونين قريبة منّي في الصفّ العاشرِ لا أعرف كيف أبوح لكِ بهذا الحبّ ولكن أنتِ تعرفين- أنظرُ إليك طوال دوام المعسكر.
 كم هي جميلةٌ هذه الفتاة، شفتاها شاحبتان ووجهها شاحبٌ،
إنّها فتاةٌ مراهقة،
ألا تأكل جيّدا؟،
إنّها تشبه قصائد كافافيس وتشبه اسم مدينة الاسكندريّة
وهي بنتُ عامودا
وتقول أنّ أصلها عربيّ وهي تتكلّم عربيّة مكسّرة. أتعرف هذه الفتاة؟ - يقولُ جمعة: بيتها قريب من دكّان يحيى، فلنذهب مساء، نشرب هناك كازوز سينالكو.
شفةُ أمينة شاحبة. باصُ الجمعيّة التّعاونيّة يمرّ ببريفا للتوّ. – ذلك هو الوادي الذي يدخله عماد الحسن حين يريد كتابة القصائد، يستلهم جنون الأجداد المدفونين في تلال موزا وأيضا قصائد أمّه الدينيّة وقراءات عمّه للقرآن الكريم. – إنّه يسرقُ قصائده من حامد بدرخان وشوقي أبي شقرا وسليم بركات ويزور القامشلي مدّعيا أنّه هو مبدعها. عماد الحسن شاعر، يطوفُ دروب القرى في الرّبيع حين ترتفع الأشجار والأعشاب وتخفي الدروب والسنابل تفوحُ والزّنابق تتراقص ويأتي إلى عامودا حاملا قصائده المكتوبة بخطّ جميلٍ، إنّه حلقة الوصلِ بين شعراء القامشلي وعامودا. – لا تصدّقه، إنّه يستنسخ قصائد الآخرين ويأتي إلى عامودا، لأنّه يحبّ فتاة في تلك الحواري حيث لا مجارٍ وتفوح الرّائحة الزّنخة من كلّ الأنحاءِ. وتسيل المياه الآسنة. يكذب عماد الحسن ويشبّه تلك الأوساخ بالزّهورِ ويقول عن المياه الآسنة، أنّها كولونيا.
شفاه أمينة شاحبة في الحواري الفقيرة
وفي الصفّ العاشرِ تقع في حبّ مدرّب التربية العسكريّة
-         أمينة، لا تحبّي حزب البعث!!
أخرجُ من خلف عماد الحسن وأنظرُ بعينيّ ولا تنطفىء عامودا حين لا أكون موجودا فيها. حين أدرس في حلب وأصاب بالتهاب رئويّ من تدخيني في ذلك القبو الضيّق الرطبِ الفقير الرخيص ولا أحبّ حزب البعث. أحبّ أمينة وأشعر بالاختناق في الباص الذي ينقلني إلى جامعة حلب. لم تأتِ أمينة إلى حلب.  
شفتا أمينة شاحبتان في القامشلي وشعرها رطبٌ
وحين تلامس أصابعي شعرها بغير قصد منّي،
تقول، أبعد أصابعك من شعري.
 
 – أحبّك أمينة، والعشّاق عادة لا يستطيعون هكذا المصارحة لحبيباتهم وجها لوجهٍ، لكنّني أستطيع أنْ أقولَ لك ذلك آلاف المرّات دون أن أتعب. – ستقول ذلك بعض المرّات ومن ثمّ تنسى الموضوع. أمينة، أريدُ أن أتزوّجك.
وأقيم حفل الزّواج بالقربِ من السبع بحرات، هناك ساحةٌ كبيرة وسأدعو كلّ شعراء عامودا والقامشلي ليلقوا قصائدهم من الميكرفونات الشديدة الصّوت. وأيضا المجانين، فهم أصدقائي. وصلاح رسول ليعرض حركاته البهلوانيّة من المنصّة بعد أن زوّد نفسه بفرقة موسيقيّة بطبول وصنجات وبيانوات حديثة. – لا أحبّ صوت صلاح رسول، وقصائد عماد الحسن أيضا غامضة وهو متكتّم ويلبس دائما ملابس سوداء...
شفةُ أمينة بيضاء في الشتاء
وفي الخريف أجدها بالقرب من جدار مدرسة إعداد المعلّمين. تتفاجاُ جدّا حين تراني.
 – أمينة، القامشلي ليست بعيدة جدا عن عامودا وأنت منذ أكثر من ثلاثة أعوامٍ في قلبي ويقولون أنّك وقعت في حبّ شابّ يشبهني. بنفس طريقتي في المشي وبنفس القامةِ وأنا أحبّك في عامودا. المسافةُ بين عامودا والقامشلي ثلاثون كليومترا فحسب، أستطيع قطعها على الأقدامِ ببساطة وأستطيع الاستراحة في بيت عمّتي شكريّة في توبز وأيضا زيارة قبر أجدادي في تلال موزا. أستطيع قطف العنب من الكروم حول الطّريق. الجميعُ يحبّون أبّي ويعرفونه، لكنّهم لا يعرفون أنّني واقعٌ في حبّك وأنّني أستطيع قطع المسافة حتّى حلب مشيا على الأقدام، إنْ رغبتُ.
شفةُ أمينة صفراء بين زهورِ بريفا. وقلبي يرتفع وينخفضُ في المقعد الأخير من الباصِ ليلا، حين أعودُ إلى عامودا...
وجه أمينة أصفر في الصيف في معسكر الصفّ العاشرِ،
تحبّ مدرّب التربية العسكريّة ولا تعرفك أبداً ولا تقول لي أيّ كلمة بخصوصك، إنّها متكبّرة، تقول مَلكا. من الأفضل لك أن تنساها.
لا زالت أمينة تمشي في القامشلي معتنية بجمالها وتدوس على أوراق الشّعر. إنّها متباهية في معنى الحبّ وأظنّها تتذكّرك وتنساك كلّما طابَ للصيف وللشعر، يقول، ابراهيم حسّو.
اكتب قصيدة عن أمينة كي أعلّقها فوق حيطان عامودا كلّها، يقول طائر سنونو في أبابيل الشّعر.  
ويقولُ الشّعر:
شفةُ أمينة صفراء على العنبِ في توبز
وبيضاء بالقربِ من دكّان يحيى وبنفسجيّة عليّ  في عامودا
وتتذكّر كلّ شيء.
-         الحبّ أيضا يموت..
-         لكنّ شفة أمينة هي شفة الشّعر..قبل أيّ شيء!!
 
هانوفر‏08‏.08‏.2006



















كم نحن مسرورون  يا أمّي...

 
- متى سيخفّ الألم يا عمّي!؟.
قلتَ قبل ساعتين أنّه سيخفّ ويزول شيئا فشيئا بعد ساعتين. وها مرّت ساعتان وأربع دقائق ولازلتُ أتألّم. إنّه ألمٌ لا يطاق، يخفّ قليلا ثم يعودُ بشدّة. ها قد مرّت دقيقتان أخريتان يا عمّي. هل سيزول الأم بعد خمس دقائق أخرى؟. لو علمتُ أنّني سأتألّمُ هكذا، لكنت هربتُ إلى بيت الخالة سُعادا وتنكّرت بثياب غير ثيابي حتّى لا تتعرّفوا عليّ!! لماذا يتمّ تطهيرالأولاد، ألا يمتلك الوالدان شفقة في قلبهما؟!!، ليتني كنتُ مسيحيّا كي لا يتمّ تطهيري. لماذا لا يتمّ تطهير البنات؟؟ عمّي!، إنّه يوجع !! هل سيزول الألم في المساء!! إن استمرّ، كيف سأستطيع النّوم...!!
- حاول أن تفكّر في شيءٍ آخر، تذكّر قصّة ما، فكّر في سلمانو وحصانهِ الحديدي. فكّر في عمّك شيخ حليم وفي محمود المؤذّن في الجامع الكبير. فكّرفي جنيّة خالتك سُعادا..!! ولا تنظر إلى السّاعةِ كلّ دقيقة..!!
- هل يوجد جنّ يا عمّي!! هل حقّا تملكُ خالتنا سُعادا جنيّة وتهّيء لها هذه الجنيّة السجّادة حين تصّلي الخالة وتمشّط شعر الخالة وتغسل ثيابها وترشّ الماء صيفا في باحتها ليترطّب الجوّ وتزول الحرارة؟. أنا أيضا أريد أن يكون لي جنيّة، سأطلب من سُعادا أن تعطيني جنيّتها!! ألا تبيعني خالتي الجنيّة!! آخ، ليتني لم أتطهّر..أو كنت مسيحيّا!! لقد مرّت عشرون دقيقة الآن ولا زال الألم هو هو. آخ... لماذا لم يخدّرنا المطهّر السيء..
يقول ابن عمّي حسن لأبي ويسأله الأسئلة تلو الأسئلة. ويحاول أبي أن يبعد تفكيره عن أن يفكّر في تلك الشفرة الجهنميّة التي قطعت جزءا من جلدنا، دون تخدير. قطعت جزءا من جلدنا. جلد مليء بالشرايين. وانبثق الدّم ولم يتوقّف، قطعت موس المطهّر بسرعة ماهرة هذا الجلد الزائد، بمهنيّة عالية، مطهّر من أفضل مطهّري عامودا. كبير في العمر، شيخ قضى كامل سنواته في بتر جلد أعضاء الأطفال الزائد، ورث مهنته من أوّل جدّ في العائلة. ورث الخبرة والحذاقة. حقيبته التي تحوي شفرته الجهنميّة، تحوي القطن والسبيرتو والدّواء الأحمر، تحوي عدّةَ سكاكين حلاقة حادّة كالبرقِ...حقيبته سوداء من جلد قديمٍ، ذات تجعداتٍ، حقيبة فيها العدّة وإن فُتحت، فويل لعضو الأولادِ. جاء المطهّر إلى بيتنا، في الساعة العاشرة صباحا، كان هنا أيضا في الغرفة ""صِدّيقي كرّو"" الذي سيصبح كريفنا، سيتم تطيهرنا، أنا وابن عمّي حسن، في حضنهِ وتصبح عائلتنا وعائلته أقرباء، هو يصبح كريفنا ونحن نصبح كذلك. ستقوم بيننا وبين أولاده وبناته قرابةٌ بهذه الطريقةِ. "صِدّيقي كَرّو" رجلٌ شهمٌ، يحبّه والدي جدّا، هو مضرب مثل. رجل لم يقرأ في كتاب ولا مدرسة وهكذا عارف،حكيم، شهم. إنّه شيءٌ نادرٌ، أريد أن يصبح كريفنا، يقول أبي. و "صِدّيقي كَرّو" كبيرٌ ووصف أبي له يجعله كبيرا أكثرَ وسنصبح أقرباء وصديقي عيسى سيصبح قريبنا. لم أكن أعرفُ آنذاك أنّ عيسى كان ابن "صِدّيقي كَرّو". كنت أنا وعيسى ابن "صِدّيقي كَرّو" في نفس المقعد. في الصفّ الخامس. في مدرسة المتنبّي. وكنت أخاف مثل ابن عمّي حسن من التطهير، كان ابن عمّي يخافُ من المطهّرين، يخاف من تلك الشفرات الحادّة كجهنّم، كانت كابوسا. إن رأى مطهّرا، فإنّه كان يهربُ وإن هُدّد بالتطهير والمطهّرين، فإنّه كان يتعقّد.
- تصوّر أنّ أمامك آلافا من الأفيال وهيّا عدّها من الأوّل حتّى الأخير...حين تصل إلى الفيل الأخير، فالألم سيزول..
- لقد خدعني أبي بكلامه المعسول وبهذه الساعة اللعينة التي اشتراها لي. ليتني كنت جنيّة الخالة سُعادا، لا أحد يستطيع تطهير الجنّ. إن كان عندي جنّية لطلبت منها أن تقص عضو المطهّر الخبيث. كانوا يقولون دائما أنّ المطهّر لكي يشغل الأولاد وتفكيرهم وكي لا ينظروا إلى سكّينه، فإنّه يقول لهم،ها فأرة في السقف تركض، فينظرُ الأولاد إلىالسقف وهو يطهّرهم في لمحة البرقِ. لكنّه لم يقل لي ذلك يا عمّي، هل كان يعرف أنّي لن أصدّقه، حيث أنّني أعرف هذه الكذبة منذ زمن طويل!!؟
- انظر إلى ابن عمّك، إنّه لا يقول شيئا. كلّما تكلّمتَ فإنّ الألم يشتدّ..وهيّا عدّ الأفيال البيضاء وهي تركض وتمرح في الوادي...!
تمرّ عدّة دقائق أخرى ويصمت حسن بالفعل، غير أنّه بين الحين والحين يطلق آهة أو يطلب أن يشرب الماء وينظر إلى الساعة كلّ دقيقة... أنا أيضا ممدّدٌ إلى جانبهِ. أحسّ بأنّ الدّم يتشرّبه القطن، أحيانا يشتدّ الألم فلا يُطاق، أحيانا يزول كلّيا، لكنّه يعود بسرعة ويمكث. أستمع إلى أسئلة ابن عمّي حسن. أفكّر في الأفيال علىالمرج بالآلافِ. أعدّ بعضا منها. لا أحاول أن أتكلّم خوفا أن يشتدّ الألم وأفكرّ في ما وعدت به، بالدرّاجة الهوائيّة، بالبسكليت الأحمرِ الذي لولاه ما تطهّرتُ أبداً. أفكّر فيه ولم أكن طبعا أعرف أنّه أحمرُ الّلون. لم أكن أعرف أنّه سيكون بسكليتا أحمرَ لامعا، بيجو يابانيّا. والأحمر هذا الّلون الجميل، وصبغ البسكليت هذا الدقيق الساطع وتلك النقوش باللون الذهبيّ. إنّه يستحقّ أنّي تطهّرتُ من أجلهِ. سيزول الألم حتما كما يقول أبي والكبارالآخرون وسأركب بسكليتي وأذهب إلى بيت صديقي الذي سيصبح كريفي عيسى. سأذهب وأركب البسكليت طوال الوقتِ وأعتني به جدّا. لن أتركه تحت الأمطارِ، سأنظّفه بانتظامٍ وأقول لأمّي، حقّا، أكاد لاأصدّقُ أنّني سأمتلك بسكليتا..!! سيشتريه والدك قريبا، لا عليك، ستتحقّق أمنيتُك قريبا. يشتري والدي البسكليت الأحمر ماركة البيجو.. ويملأُ البسكليت الغرفة بوجوده الساطع اللامع الأحمرِ. لا أستطيع ركوبه، بالكاد أستطيع المشي لمسافات قصيرة بعد أيّام. وجوده يكفيني في الأيّام الأولى.
وأنامُ في الأيّام الأولى ما بعد العصرِ. أنامُ ناسيا أنّه تمّ تطهيري ولا تكون لي أيّة أحلامٍ. أنام في طمأنينة الأفيالِ أو كالأفيالِ، كمثل لون جلدها الغليظ الأبيض، تلك الأفيال بعشرات الآلاف التي كان يعدّها ابن عمي حسن. أنامُ ولا أعرف أنّ عائلةَ كريفنا الرجل الحكيم الكبير "صِدّيقي كَرّو" تزورنا، أنّ العائلة تجلبُ علب السّكاكرِ، تجلب لي الجوارب والكلابيّات، تجلب لي الأحذية الأنيقة. زوجة كريفنا وبنات كريفنا وصديقي عيسى معهم يأتون في ما بعد العصرِ وأنا نائمٌ في الأبيض المنعشِ ويجلبون لي الهدايا. أمّي ترحّب بهم كثيرا. قلبُ أمّي ممتلىءٌ بالبشرى، بالفرحِ الغامضِ. ولدها الأصغر مطهّر ينام بهدوء، كريفتها وبنات كريفها وابن كريفها عندها. – كم نحن مسرورون بكم، كريفي، أهلا وسهلا بكم، كريفي... على الرأس والعين جئتم، شيخ عفيف يحبّ كريفه "صِدّيقي كَرّو" جدّا وأظنّه فقط طهّر الولد لكي نصبح كريفا وأقرباء. أستمرّ في النّوم وسرور وبهجة أمّي تصلني في النّوم وأحسّ كم نومي لذيذ، لم أنم منذ زمن طويلٍ نوما كهذا، أمّي هنا، أقربائي الجدد هنا. صديقي عيسى هنا، دون أنْ أدرك أنّه ابن ل"صِدّيقي كَرّو". يقول عيسى لأمّه وأمّي أنّه يعرفني، يقول أنّنا كلينا في نفس الصفّ. أنا أنام وفي النومِ أشعر بنورٍ دافءٍ ينبعث لا أدري من أين، بنورٍ لانهائيّ وأعرف أنّ حبّي يتمّ تبادله، أعرف أنّ حبّي حبٌّ حقيقيّ وأنّه وجد صداه وأنّه يستمرّ وأنّه صادق. أعرفُ أنّ أبواب هذا الحبّ واسعة، أنّ الآخرين يحتاجون إليه وأنّ الكآبة لن تكون مصيره. أعرف الحبّ لأوّل مرّة في حياتي في النّوم...أقول لأمّي في النّوم، افرحي يا أمّي هذا فرحٌ حقيقيٌّ. انشري فرحك البسيط عليّ أيضا ومنّي أيضا ينبعث الفرحُ في النّوم، أحسّ لأوّل مرّة بالحياةِ، دافئة، نابضة مغمورة بحبّ لا يوصف!! هذه هي أوّل مرّة، هذه هي أوّل مرّة ... أمّي!!
كم نحن مسرورون ... أمّي!!
نركب أنا وابن عمّي حسن درّاجتينا في صيفٍ قائظٍ وننطلق. أنا معتوه وابن عمّي أكثر عتاهة. درّاجتي لونها أحمر، بيجو، هديّة والدي لأنّي قبلت أن أتطهّر. درّاجةُ ابن عمّي زرقاء لامعة أيضا. إنّها درّاجة أخيه وابن عمّي أحمد أو الثعلب كما يسمّيه حسن. ننطلقُ على الطريق العام في صيفٍ حارّ جدّا، ملتهب وفي ظهيرة أكثر لهبا. نذهب لا نعرف إلى أين
- نذهب إلى قرية توبز، إلى عمّتنا شكريّة وعمّنا شيخ نَعْمَتْ وابنيهما عبدالكريم وعبدالرحيم. القرية ليست ببعيدة، على الجانب الآخر من رنكو. ستذبح لنا العمّة شكريّة ديكا أسود!!
إنّه عيدٌ. الأطفال والشبّان يلتموّن هناك أمام سينما عامودا الشتويّة التي تعمل في أيّام الأعياد وإن كان الفصل صيفا، يلعبون اليانصيب ويشترون المسدسات من دكّان جورينا الذائع الصيت، المسدسات المائيّة أيضا ويدخلون إلى أفلام البروسلي وصور بروسلي يلتفّ حوله التّنين الكبير وهو بعضلاتهِ. نرى الأولاد هناك متجّمعين ونسمع فرقعات المسدسات بطلقاتها الباروديّة البلاستيكيّة الحمراء ونرى صوربروسلي. لا ندخل السينما، إنّما ننطلقُ إلى عمّتنا شكريّة في قرية توبز والغبارُ الناعم يغطّي كامل الطريق إلى القرية، الطريق التي تتفرّع ترابيّة بغبارها الكثير من الطريق الاسفلتي بين عامودا والقامشلي. تمرّ بنا أيضا باصات الجمعيّة التعاونيّة ذاهبة آتية من القامشلي والطريقُ تطول والحرارة تشتدّ لكّننا نواصل الضغط على الدوّاسات ونخلّف وراءنا الميرا وبريفا وكرنكو. لا نقف أبدا لأيّة استراحةٍ نواصل قيادة درّاجتينا، العيدُ وعمّتنا شكريّة وتوبز بانتظارِنا. نصلُ إلى توبز أخيراً، عطشانين بشدّة، درّاجتانا ملفّعتان بالغبارِ الدقيق، أحذيتنا وملابسنا ووجوهنا. نذهبُ إلى بيت العمّة بجداره المنخفض، نرى الباحة، الباحة نظيفةٌ جدا وفارغة. لا نأمة، لا صوت أبدا. نطرق البابَ، نطرقه ثانية ونصيح، عمّة شكريّة، هل هناك أحد في البيت!!؟. لا أحد يردّ. الباحةُ نظيفة جدّا، القرية هادئةٌ جدّا. حيوانات العمّة، ديكها الأسود في الاسطبل، الديك لا يصيح ولا يصدرُ أيّ صوت من أيّ حيوانٍ. نترك البيت، نركب البسكليت، نحسّ بالحرارة أشدّ وبالعطشِ. نذهب إلى حيثُ حنفيّة توبز العامّة. حنفيّة وحيدة خارج القرية قليلاً، مسافة كبيرة حولها موحلة. نفتح الحنفيّة، نشرب، ندخل رؤوسنا تحت الماءِ ثمّ صدورنا وظهورنا وأيدينا وأرجلنا. الغبار على ثيابنا يصير وحلا ونحن نبتلّ كثيراً..!!
- سوف تجفّ الملابس في الطريق، من الهواء والشمس...!!
نركب درّاجتينا، يريد حسن أن نأخذ طريق موزا ونمرّ بالتلال الجميلة وربّما أكملنا الطريق إلى حجّي ناصر ولقينا عمّتنا هناك. نخرج قليلا من القريةِ، نرى كرما بعنبٍ أصفر وأبيض. ندخل إليه، نأكل العنب، نرى صندوقا صغيرا، نضع فيه بعض العناقيدِ ونسوق الدرّاجات. نتّجه إلى تلال موزا، نلتفتُ فنرى أحد القرويّين يشيرُ إلينا، لكنّنا نتابع المسير. نلتفت ثانية فنرى سيارة جيب زيتيّة كبيرة مسرعة جدا باتّجاهنا.
- ما الذي سرقتماه من الكرمِ..هيّا انزلا الصندوق
ننزل الصندوق الذي فيه فقط ثلاثةُ عناقيد. ينظر إليها سائق الجيب
- ما الذي تفعلانه هنا، مَن أنتما، مَن هو أبوكما..؟؟
- جئنا لزيارة عمّتنا شكريّة في توبز وهي ليست في البيت وشعرنا بالعطش فأخذنا هذه العناقيد لأجل الطريق إلى عامودا..
- ولماذا في الصندوق!!؟
- هذا لأجل الطريقِ
- لو لم أكن أعرف عمّتكما، لدعست بطنيكما برجلي هاتين!! اتركا الصندوق هنا واغربا بسرعة.
نترك الصندوق ونبتعد بخوف متّجهين إلى موزا...لا نذهب إلى حجّي ناصر، إنّها بعيدة وأنا متعب ولسوف نتأخّر في الوصول إلى عامودا. نصل موزا، ننزل من على الدرّاجتين، نصعد التلال دافعين الدرّاجتين إلى الأعلى بصعوبة. نجلس في الأعلى، نستريح... بعض الشيء. نلتقي هناك أحدهم، يقول أنّه يعرف أخي ويرى الدرّاجتين ويعرف أنّنا أتينا بهما إلى موزا...
بعد عدّة أيّام يحمل أبي سكّينه الكبّاسة الحادّة كالبرق، يتقدّم من العجلة الأماميّة، يبترالإطار وبطنه حتّى تصل سكّينه إلى الحديد وتصرّ ثم يمضي إلى العجلةِ الخلفية ويفعل الأمر نفسه معها...














لقد طُلّقت" نرمين" البارحة...!
 
مساء يأتيني " علي جازو" ويتكلّم بصوتي معي، يسلّم به عليّ ويقول:
- دعنا نشرب المتة التي جلبتها معك من دمشق حيث تعرفت عليها وعلى شربها هناك عن طريق " رشاد" و" إصلاح".
أجلبُ المتّة، نغمس فيها المصّاصات.
- هاتِ أيضا حبّة من حبوب " الديازيبام"، ولنتحدّث بعدها.
أعطيه أيضا عدّة حبوب" ديازيبام"، يأخذها في فمه وكأنّها سكّرالأعياد، ثمّ يمصّ المتّة من كأسه وراءها، يذوّب الحبّة بها ويبتلع بعدئذ المتّة والحبّة المذابة بلذّة.
- أتعرف، لقد قالوا لي في الحيّ بالقربِ من الجامعِ أنّك أصبحت مدمن هذه الحبوب، فحملتُ نفسي وأتيتُ إليك. كنتُ أيضا أتعاطى هذه الحبوب أو حبوبا شبيهة بها وألبس بنطلوني ذا الحمّالات وأطلق قليلا من لحيتي الشّقراء أوأرتدي أيضا شورتا وأذهب إلىالأعراس، بدعوة وبغير دعوة. كان الجميع يقولون عنّي أنّي جننت!!
- "علي"، كيف تتكلّم بصوتي!!؟
- أدرسُ الحقوق في جامعة دمشق وهناك أزور كورسا للتدرب على التكلّم بأصوات الآخرين وأنا أريد أن أصبح ممثلا وهذا ضروري للممثّلين!!. وأقع بسهولة في حبّ المطلّقات وأريد أنْ أتزوّجهنّ. عندي الآن قائمة بأسماء الفتيات الجميلات المطلقات في عامودا وسوف أعطي القائمة ل"حجّي محمد" أبي وأرسله في طلبِ أيديّهن لي...
- تريد أن تتزوّج ثلاث مطلقات في الوقتِ نفسه..!!
- نعم، هكذا أطلبُ من أبي، وهو يعرف أنّني أحبّ المطلقات كثيرا وصدّقني، إنّهنّ فعلا من أجمل فتيات عامودا وعلى أغلبِ الظنّ يُطلّقن لأنّهن جميلات ويردن أن يتمتّعن بحرّيتهنّ وأزواجهنّ متخلّفون ككلّ الأزواج في منطقتنا وأنا مستعدّ أن أعطيهنّ حرّيتهن. أيضا، هل سمعتُ أنّني أسّست جمعيّة اسمها" رهف"، أجمع الشابّات والشبّان ليتعارفوا ويتحابّوا ويكتبوا الشّعر ويستمعوا إلىالموسيقى.. !
يدخل أخي " عبداللطيف" الغرفة ويتجاهل علي. لكنّ علي يبادره بالكلام ويتحدّثُ عن أسس وأهداف جمعيّته " رهف"، فيقول عبداللطيف:
- سأتبوّل على هكذا جمعية بهذا الاسم الرّهيف...!!
ويخرج من الغرفة..
يحلّ الّليل وعلي يحدّثني بصوتي نفسه عن المطلّقات وزيارته للأعراس وأتذكّر ما قاله عنه الشّاعر"جميل داري":
- أتعرف" علي جازو"؟ إنّه شخص غريب ولا يصلح لعامودا، هيئته، لحيته، بنطلونه، أفكاره هي باريسيّة بحتة!! كان ينبغي لهذا الشّخص أنْ يعيش في باريس ويتمشّى أمام برج إيفل!!..
أعرف أنّ " نرمين" أيضا من هذه المطلّقات اللواتي يهواهنّ علي ويتحدّث إليهنّ بصوتي إن لقيهنّ.
- رجاء، علي، كفّ عن التكلّم بصوتي مع المطلقاتِ، يحسبنني أنا الذي وقع في حبّهنّ ويشتكين بعدئذٍ" لعبداللطيف" وهو بدوره ينقل الشكوى لوالدي
يكفّ علي عن أن يتكلّم بصوتي ويشربّ المتّة وندخن إلى أنْ تفرغ علبة المالبورو.
- أليست "آمال الدسوقي" عندكم!! حيث  جاءت من بيروت خصّيصا لتحضر أمسية عبداللطيف، حسبما هو قال من على منصّة المركز الثقافي؟ كنت أجلس وراءها في المركزالثّقافي وهي كانت تدخّن. حاول أن تسرق  بضعة سكائر منها  ولنتابع سهرتنا..
أذهب إلى الغرفةِ التي أمّي وحماة أخي نائمتان فيها. الغرفة حالكة ولا أعرف أين وضعت حماة أخي علبة سكائرها، أظنّ أنّها يمكن أن تكون في الشبّاك، أذهب إلى الشبّاك، فتستيقظ أمّي، فأقول بمزاح:
- جئت أسرق عدّة سكائر لي ولعلي جازو، حيث فرغ الباكيت والدكاكين مغلقة في هذا الّليل... وعلي وعد أنّه سيجلب غدا بدل العلبة كروزا كاملا لحماة أخي.
تستيقظ حماة أخي وتعطيني كامل ما تملكه من السكائر.
يجلب تيمور شابّا فرنسّيا معه من "رأس العين" إلى عامودا.
- إليك " فيليب"، كان يشرد في شوارع" رأس العين" بكاميرته ذات الصّور التي يحمّضها هو بنفسه بالأبيض والأسود. إنّه يتكلّم الانكليزيّة وأتيت به إليك، لتدرّب انكليزيّتك في المحادثة. سأشرب شايا معكما وأرجع إلى "رأس العين" ..
يشرب " تيمور" الشاي ويرجع إلى " رأس العين" .
يفرح" علي جازو" بفيليب جدّا ويبدأ بالتكلّم معه بالانكليزيّة ثانيةً بصوتي...
يأخذ فيليب إلى مجالس أهل عامودا وهم يلتفّون حول " علي جازو" و" فيليب". يطرحون أسئلة لا انقطاع لها ويترجم لهم علي بصوتي حسب هواه:
- يقول لكم" فيليب" إنّه قبّل اثنتي عشرة فتاة حين كان لم يزل بعد في الثانية عشرة من العمرِ في " باريس".
تفغر أفواه أهل " عامودا" جدّا. والترجمة خاطئة، حيث قال " فيليب" أنّه حين كان في الثانية عشرة من العمر قبّل فتاة القبلة الأولى في حياتهِ..
- "علي جازو" لا تتكلّم بصوتي، حين تقوم بهذه الترجمة الخاطئة !!
 
لايردّ " علي جازو" ويتابع ترجمته
- أتيتُ لأصوّر العادات والتقاليد في منطقة الجزيرة الكورديّة. الفلاّحين، الأولاد الذين يلعبون كرة القدم في العراء،روث الأحصنة والأبقار علىالشّوارع وقلوب العشّاق الذين يهوون المطلّقات. عليكم أن تؤسّسوا الجمعيّات المجتمعيّة مثل الجمعيّة التي أسّسها"علي جازو" أقصد جمعية "رهف".. وعليكم أن تشربوا النبيذ بكثرة...أهمّ شيء هو حبّ الفتيات المطلّقات كما في فرنسا..
لا أتابع ترجمة" علي جازو". والمجلس يضجّ بالكلام والأسئلة وأيضا الضحك.
يقول لي " فيليب" في سيّارة المرسيدس التي تنقلنا إلى القامشلي:
- لم تبق لدينا سيّارات من هذه التي في عامودا... كلّها وضعناها منذ وقت طويل في المتحف. أيضا لي صديق فرنسي يشبهك يتعاطى حبوبا مهدّئة ويريد تكسير الأشياء وإحداث الفوضى... لا ينبغي أن تشعر بالوحدة في " عامودا" هناك الكثير من البشر يشبهونك على سبيل المثال "علي جازو" الذي لا يملّ من التكلّم بصوتك.هل تحبّ مثله الفتيات المطلّقات!!؟
- نعم أنا أيضا وأكره هذا الواقع والنّاس الأغبياء والتقاليد السخيفة. أحبّ المطلّقات..
آخذ " فيليب" إلى بيت" نرمين" التي تكون في بيت أهلها على وشك الطلاق. أدقّ الباب، فتخرج وتقف في الباب. هي فتاة من أجمل فتيات عامودا، نَفَس أوربيّ، عيون عميقة وذكيّة ولاعبة. أخذت" فيليب" إلى هناك وهي فتحت الباب، أسألها شيئا لتبرير هذه الزّيارة. ينظرُ" فيليب"إليها..
- انظر إليها" فيليب"! إنّها أجمل فتاة في العالم. أقول
- لست بعد بفتاة، أنا امرأة. تقول " نرمين"
- انظر" فيليب"! أليست أجمل امرأة في العالم...أقول
ونركب البيكاب متوّجهن إلى قرية" تعلكي"
- هل صفوف الأشجارِ التي تبدو من بعيدٍ، هي في قريةِ " تعلكي" وهذا الأبيض الذي يشعّ هي حقولُ قطن" تعلكي" وهل صديقي الذي يدرس الأدب العربي معي في جامعة حلب، هو من هذه القرية بصفوف الأشجارِ الخلاّبة. صديقي ذو النظّارة الغليظةِ، ذو علبة التبغ الكلاسيكيّة والتبغ الجيّد. صديقي الذي لففت معه السكائر تلو السكائر ودخّناها في استراحة قاعة المطالعة في جامعة حلب. صديقي الذي أكلنا أنا وهو و" فيليب" من خبز التنوّر الحريري الذي كانت تصنعه أمّه وبعدئذ الخيار والبندورة قطفناها بأيدينا من الحقلِ. صديقي الذي كان يكتب سيناريوهات للراديو السوري..!!
- نعم، ما الذي حدثَ لك، دعنا نأكل الخبز والخيار والبندورة وبعدئذ كأسا من الماءِ. نحن في " تعلكي"
أتكلّم بصوت" علي جازو" وأسال أسئلته.
- هاتِ ما بقيت من نقود سوريّة في جيبك... يقول لي " علي جازو"
أفتّش في جيوبي وكنت أظنّ أنّني لم أعد أملك أيّة نقود سوريّة، لدهشتي أجد مئة ليرة فأعطيها له.
- لن تحتاج إلى العملة السوريّة إلى حيثُ تذهب وأنا أريد أن أشتري المتّة وعدّة علب من حبوب" الديازيبام" وسكائر أيضا وسأذهب إلى أبيك كلّما اشتاق إليك وأتكلّم معه بصوتك. وإنْ طُلّقت" أمينة" سأضيفها إلى قائمة المطلّقات وأتزوّجها إن وافقت...!!
- لا تحاول مع " عبداللطيف"!! إنّه سيسبّ جمعيّتك ثانية..
- لا، لقد اشتدّ عودُ جمعّيتي ولا تحتاج إلى أمثالِ " عبداللّطيف" لكنّني أريد أن ينضمّ صديقي" طلعت دبّاغ"،لقد كان منسجما بشكل قويّ، حين كنتُ أحدّثه عن الجمعية، ما رأيك؟
- اقترح على" نغوين" أن تدخل الجمعيّة.. إنّها أجمل امرأة في العالم في نظري...
- سأتكلّم بصوتك واقنعها أن تفعل...!!
" علي جازو" خلف الزّجاج وأنا أحاول أن أفهم الروسيّة، يلوّح بيديه الاثنتين.. يتكلّم بصوتي من خلف الزجاج ، لكنّني لا أسمع شيئاً. أطيرُ فوق" علي جازو"و" رشاد"و " اصلاح"و"فيليب" الواقفين في الحلمِ لوداعي وهم يبقون في المطار. أتكلّم الروسيّة في الطائرة الروسيّة بصوت " علي جازو" أذهبُ إلى مكبّر الصوت المركزي وأسألُ
- هل من مطلقات على متن الطّائرة!!
لايرد أحد، فأطرح السؤال بالإنكليزية، الفرنسيّة، الألمانيّة...
لا يردّ أحدٌ أيضا...
في الغدِ يأتي" علي جازو" يحملُ عدّة كروزات مالبورو...
- هذه لأجل السكائر التي دخّناها من باكيت حماةِ أخيك... واعطني من فضلك عدّة حبوب ولنذهب إلى بيت" مقداد" لقد سمعتُ أنّ " نرمين" قد طلّقت البارحة...!!
 





























قريبي الذي يذبح الثّعالب
 
يتلفن لي " بافي آلان":
- ياهو "شيخ" سمعتُ أنّك بدأت في الفترة الأخيرة تكتب القصص والحكايات. إنّني أملك العديد منها. أعرف أقرباءك جميعهم، أعرف عمّتك شكريّة وأبناء عمّ أبيك في" حجّي ناصر" و"توبز" وذهبت إلى أبيك الشيخ عفيف حين كنتُ أدرس في عامودا وكنت في الصفّ السابع الإعدادي، إلى الآن أتذكّر زيارتي له. حقّا تفعل بابتعادك عن الشّعر، لم يعد أحد يقرأ الشّعر ويهتمّ به. سليم بركات هو قريبي أيضا ولكنّني لا أفهم ما يكتب. لقد قال في إحدى المقابلات، أنه إن كتب بالكورديّة فإنّه سيغمس يده كاملة في الحبر ويكتب هكذا. أتعرف ما يقصد بهذا؟! تعالَ إليّ لأقصّ عليك قصّة الثّعلب الذي كان يطارد أحد القرويّين.
أذهبُ إلى " بافي آلان". يصنع " بافي آلان" الشاي في إبريقين، الإبريق السفلي للماء وهو كبير، الآخر الأصغر يضع فيه الشاي الجاف. حين يغلي الماء في الإبريق السّفلي يطفىء موقد الغاز ويصبّ ماء مغليّا في الإبريق الأصغر. ننتظر تقريبا عشر دقائق إلى أن يتخمّر الشّاي. ثمّ نبدأ بشربه في الكؤوس الصّغيرة ذات الأطواق المذهبة في الأعلى.
- في قرية" علي فرو" كان قرويّ يركب درّاجته، يذهب إلى قرية أخرى أو إلى القامشلي بعد فترة التفت خلفه وإذا بثعلب يطارده. تعجّب القرويّ جدّا، فالثّعالب لا تطارد البشر عادة، بل تلوذ بالفرار إن لمحت إنسانا ما. تابع الرّجل قيادة درّاجته الهوائيّة ولكن بعد عدّة دقائق لحقه الثعلب وبدأ يهاجم قدميه حتّى اضطرّ القرويّ أن يتوقّف وينزل من فوق درّاجته. حينذاك ابتعد الثعلب لمسافة قصيرة وبدأ يحملق في القرويّ. حين ركب القرويّ درّاجته ثانية وساقها، لحقه الثّعلب ثانية وبدأ يهاجمه، فاضطرّ ثانية أن يتوقّف وينزل عن درّاجته والثعلب ابتعد أيضا لمسافة معيّنة منتظرا أن يقود القرويّ درّاجته مرّة أخرى ...
- الثعالب ماكرة ولكن لم أكن أعتقد أنّها تهاجم النّاس!! يبدو أنّ هذا الثعلب كان من نوع مختلف!
- وحين ركب القرويّ درّاجته فإنّ ثعلبنا طارده ثانية وظلّ القرويّ يتوقّف والثعلب ينتظر والقرويّ ينطلق والثعلب يهاجم حتّى وصل القرويّ إلى المكان الذي كان يقصده وتركه الثّعلب وانطلق في البراري...
- يا لها من حكاية غريبة، لم أسمع قطّ مثلها. " بافي آلان" شيري رهوان، أنت أسد سريع!!
- فعلا أنت تعرف الأسود! أنا رجل مسكين. انتظر لقد تذكّرت الثّعلب الآخر. ذلك الثعلب الذي كان يدخل أكواخ الدّجاج في" حجّي ناصر". لقد كان ثعلبا داهية بحق. كان قد التهم من كلّ بيت من بيوت القرويّين عدّة دجاجات. اتّفق القرويّون أن يقبضوا على هذا الثعلب وهكذا طاردوه ذات يوم وهو فرّ من بيت إلى بيت، إلى أن اختفى أثره في أحد البيوت. عندئذ نادى القرويّون قريبك " شيخ فخري". قام سكّان ذلك البيت برفقة" شيخ فخري" بتفحّص كلّ الغرفِ ولكنّهم لم يعثروا للثعلب على أثر، عندئذ فكّر " شيخ فخري" مليّا وقال، دعوني أدخل لوحدي إلى تلك الغرفة التي نشرتم فيها الجلود على الحبال. وفعلا رجع " شيخ فخري" من الغرفة قابضا على الثعلب. كان الثعلب قد ارتمى على إحدى الحبال متراخيا حتّى يحسبه الآخرون أيضا جلدا ملقى على الحبال!
- وما الذي فعله " شيخ فخري" بالثعلب!!؟
- ما الذي فعله!! لقد وضع سكّينه على رقبة المسكين وذبحه وفرش فروته في غرفته بعد ذلك!! كان" شيخ فخري" يصطاد الثّعالب ويقوم بذبحها... في رأيي ذلك الثعلب الذي كان يطارد القروي ودرّاجته، كان يستحقّ الذّبح.
-" بافي آلان" إن سقت درّاجة ذات يوم في" علي فرو"، فإنّ الثعلب في تلك القرية سيطاردك أيضا...!!
- أنا أظنّ هذا أيضا!! ربّما يطارد الدرّاجات ولكن ربّما ذبحه قريبك" شيخ فخري" . أنتم الشيوخ تفعلون الأعاجيب. يخطر في بال مَن من النّاس، ياهو، أن يذبح الثّعالب!؟. ألا يخاف" شيخ فخري" من الله. لكن ذبح الثّعالب حلالٌ في الإسلام على ما أظنّ...
- لو أمسك ذلك الثّعلب برجل صديقك" جورج" في قرية" علي فرو"!!
- آه كم تمنيت ذلك، لقد اهترأ قاموسي الألماني – العربي عنده. كم هذا الرّجل بخيل. سعر القاموس فقط عشرون يوروا. لكنّه دائما يأتي إليّ ليستعير قاموسي. سأريك القاموس ذات يوم. لقد جعلكه وانفكّ غلافه وامّحى صمغه ولم يعد ذا قيمة...
- ما عليك سوى أن تهديه القاموس..
- سأهديه .... هذا! اشترِ أنت قاموسا واهدِه له!!
- لكنّه صديقك"بافي آلان" وليس صد‍يقي...
- عن أيّة صداقة تتحدّث "شيخ"!! إنّه يأتي إليّ فقط لكي يستعير قاموسي أو لأحلق شعره..!! ليتني لم أعطه رقم تلفوني الجديد..!!
- "بافي آلان" كان يأتي "شيخ فخري" إلينا في عامودا. كان يرتدي جبّة طويلة خضراء تبرق، كان يأتي ممتطيا درّاجته الناريّة ولحيته محنّاة، حمراء داكنة وبرتقاليّة وصفراء وعيونه كانت مكحّلة بالكحل دائما وتلمع جدّا. كان يقول لأخي أنّه شيخ ماركسي ممازحا. لم أكن أعرف أنّه يصطاد الثّعالب ويذبحها..!!
- بلى، أنا شاهدت ذلك بأمّ عيني. وليس الثعالب فقط بل كان يصطاد الأفاعي السامّة، لا أعرف بأيّة طريقة، وكان ينتزع أنيابها السامّة ثمّ يطلقها...
- إلى أين شردت" شيخ"!؟ هيّا فلتشرب كأسا أخرى... لاتزال في الإبريق خمس كؤوس!!
- شكرا" بافي آلان" على الشّاي." فايق" أيضا يصنع مثل هذا الشّاي. أتعرف، آتي إليك فقط كي أشرب هذا الشّاي..!
- وليس لأجلي..؟
- فقط لأجل الشّاي...
- في المرّة القادمة اقعد بعيدا هناك في الشارع وسأرمي عليك بالإبريق ولتشربه لوحدك على الشارع، في الخارج وفي المطر...!!
- أنت و"فايق" تصنعان شايا عجيبا غريبا..!!
- ولكنّ شايي طعمه أفضل من شاي"فايق"، ماذا تقول..!!؟
- يا هو، اليوم لم تتركه يتخدّر،إنّه مثل بولك...
- "شيخ" ما الذي حدث لك، هل أنت على ما يرام اليوم...!!
أصمتُ وأشرب الشّاي وأذهب مودّعا" بافي آلان".
- فوق تلك التّلالِ يقفُ" شيخ فخري" قريبي، الذي يذبح الثّعالب، إنّه في جبّته الخضراء، في عمامته الخضراء، الحرمل له لونٌ أخضر داكن. إنّه يقف إماما وأمامه تابوت وخلفه جماعة من المصلّين، يصلّون الصلاة الأخيرة، صلاة الموتى على ذلك الميّت في التّابوت والهواء صقيل ونظيف وهادىء للغاية. تلال موزا، كم هي مرتفعة. أرى الحرمل وأرى السّماء وتلال موزا ممتدّة وواسعة. يصلّي" شيخ فخري" على الميّت في ربيع أخضر جدّا. -
- سيضعك قريبي في ذلك التابوت ويصلّي عليك أيضا ذات يوم عندما تموت..
- يا هو، اترك هذه المزحات، فليصلّ عليك، أليس قريبك أنت!!؟ كيف تضع صورة كهذه في زاوية" المسنجر"، إنّها مخيفة!!؟
- كم أحبّ هذه الصّورة، أحبّها جدّا جدّا!! انظر إلى " شيخ فخري" والتابوت أمامه والمصلّين.. أنا الذي التقط الصّورة في زيارتي الأخيرة...  آه كم هي جميلة‍..!

ديسا ﮋِنوْ بي حالَه دِلْ

 
تحدث بعض الأعطال الطفيفة في طائرة "جكرخوين" التي تعود به من كوردستان الفيديراليّة إلى السويد، فتضطرّ الطائرة للهبوط في مطار القامشلي لإجراء التّصليحات اللازمة ثم الانطلاق. ينزل" جكرخوين" مصابا بجروح بسيطة. كان"جكرخوين" يعتقد أنّ كوردستان تركيا هي التي ستكون شرارة تكوّن كوردستان مثلما كان ماركس يعتقد بالثورة الشيوعيّة وانطلاقها من انكلترة وألمانيا أوّلا، حيث كوردستان تركيا هي الأكبر وجماهيريّا الأكثر جمهورا وظروفها أيضا أكثر نضجا حسب تقديراته.
- على كلّ حال، إنّها فرصة كي أزور مدينة عامودا وأجري بعض تصفيات الحساب هناك وألتقي بعض الأصدقاء! يقول "جكرخوين" في نفسه.
يأخذ باصا من باصات الجمعيّة التعاونية والباص بطيءٌ ويتوقّف حاملا الركّاب من على الطريق بين الفينة والفينة:
- تبّا لهذاالباص السخيف، لقد وصل البشر إلى القمر والمريخ وباصاتنا لازالت هي هي، جمالٌ بطيئة أو حميرٌ مكلومة الظهر، مريضة.
يقول"جكرخوين" هذا بصوت جهوريّ غاضبا ويمسح العرق من جبينه. يلتفت الركّاب إلى جهة الصّوت ويتعرّف بعضهم على" جكرخوين"
- أيّها السيدا العزيز، أكاد لاأصدق عينيّ. لماذا لم يخبرنا أحد أنّك هنا. كنّا نريد أن نستقبلك استقبالا يناسب مقامك.
- لقد مللت من الاستقبالات والزّيف الاجتماعي. آتي إليكم بعد أكثر من عشرين سنة من الإقامة في السّويد وأنتم لم تتطوّروا قيد شبر في حياتكم. أنتم لازلتم نائمين وصرخاتي في شعري، يبدو أنّها ذهبت هباء منتشرا منثورا.
- ماذا نفعل"سيداي جكرخوين" ! قيدُ الطغيان على لساننا وأولادنا وقمحنا وزيتوننا!!
- تبا لكم ولهذا التمسكن!. لماذا تتصوّرون أنّ الطغيان أبدي ولايُقاوم...!؟
يصمت الرّجل حين يسمع هذا الكلام الناريّ من الشّاعر الذي طغت شهرته على كلّ عين ولسان وزمان. ويمضي الباص متثاقلا باتّجاه عامودا. والركّاب يتهامسون ويغمغمون بوجل وفرح.
في محطّة الجمعية التعاونيّة في عامودا ينزل"جكرخوين" فيبصر الشّاعر الشعبي" صبري خلّو سيتي" في ثيابه البالية يقول بعض الأبيات لشباب مراهقين التفوّا حوله.
- آه، صديقي" صبري خلّو سيتي"، لازلت تتسكّع على الشّوارع، تقول الشّعر الاصلاحي للنّاس. ألم يحن الوقت أن تكتب أشعارا ناريّة كي ينبعث الأموات ويثوروا على جلاّديهم!؟
- "سيداي جكرخوين"! أهذا حلم أم حقيقة! أنت في عامودا... على عيوننا أنت... على رؤوسنا أتيت. أريد بأشعاري وأبياتي أن أجعل اللغة الكورديّة محبوبة لدى الفتية. المضمون إن كان اصلاحيّا أم ثوريّا لايهمّني في المقام الأوّل، بل نشر اللّغة والحبّ للسان الكوردي... هذا أولآّ يا سيدايَ الغالي.
يسمع عمّي"شيخ صدري" أنّ جكرخوين" في عامودا. يذهب إلى السوق ويشتري خمسين كيلوا من سكاكر النعناع. تلك السكاكر البيضاء الصّغيرة الغائرة نحو الدّاخل قليلا على وجهيها. يلبس الجبّة الشيخيّة الخضراء ويشتري حجلين من جاره بيت" منجولي". يأتي بدواوين "جكرخوين" التي يملكها، يراجعها كلّها ليتثبّت من صحّة حفظه لها كلّها على الوجه الأصحّ. يحمل هو وولده" ضياء الدّين" سكاكر النّعناع ويوزّعونها على المارّة بالقرب من دار بلديّة عامودا. يحمل الحجلين، يطلق أحدهما ويبقي الآخر تحت قفطانه، سأعطيه ل"جكرخوين" يقول ذلك ويدندن بأهزوجة من أشعار الجزيري الكلاسيكيّة.
يأتي " الملاّ سليمان" و"صدقة" إلى مكتب أبي "الشّيخ عفيف" وبعدهم يأتي عمّي"شيخ صدري"
- هل سمعت"شيخ عفيف"، جكرخوين في عامودا. إنّه الآن في بيت آل" جلبي"
- لقد قرأت بعضا من أشعاره الأخيرة...إنّه يشطّ في تناوله للإسلام ويجعله سبب تأخّر الكوردِ وبقائهم تحت نير المستعمر وأيضا هناك بعض الخلل في الأوزان الفراهيديّة والقوافي أيضا مفتعلة في الكثير من المواضع.
- لابأس" شيخ عفيف" تستطيع أن تقول له نقدك، إنّه يتقبّل النقد. فلنمضِ إليهِ إلى بيت "آل جلبي"!
يأخذون والدي معهم ويذهبون إلى" جكرخوين". حين يدخلون الغرفة، يطلق عمّي" الشيخ صدري" الحجل الذي كان يخبّئه تحت جبّته. يطيرُ الحجل مذعورا في الغرفةِ. يندفع إلى إحدى الشّبابيك، ويرتطم بها محدثا الكثير من الضجّة وناثرا أرياشا هنا وهناك.
- أخرجوا هذا الحجل اللّعين! مَن الذي جلبه!؟ إنّه رمز الخيانة. أمر الكورد عجيب. بدّلوا الحجل بنسر أوعصفور ولاتجعلوا الحجل رمزا لكم.
- الحجل هو حدود كوردستان، أين حطّ الحجل، فتلك الحدود حدود كوردستان.
- ما هذه الخرافات التي تؤمنون بها. حدود كوردستان هي العلم والتنوّر والماركسيّة الّلينينيّة. واعداد القوّة واشعال الثّورة...!!
يسمع عمّي"الشيخ صدري" ذلك، فيغتمّ قلبه. "جكرخوين"الذي كان يعرفه في عامودا قبل عشرين عاما، لم يكن غضوبا هكذا. كان يحبّ الحجل وألوانه البديعة. منقاره الأحمر ومشيته الحرّة. كان يدرس علوم الدّين بشغف، كان أيضا يلقّب ب"ملاّ جكرخوين". ماذا حدث له في الغربةِ، في ديار الملحدين!! يبدو أنّه هوأيضا صار ملحدا وإلاّ كيف يطلب من النّاس أن يؤمنوا بالماركسيّة وهي ليست إلا كفرا وإلحادا..!! حينذاك يقول عمّي" الشيخ صدري" بعض الكلمات الغامضة بالكورديّة، فيأتي الحجل ويدخل إلى تحت قفطانه..!
- أنتم الشيوخ، لا تقولون الحقيقة للناس وبهذه الغمغمات والشعوذات توهمون النّاس البسطاء أنّكم تتكلّمون مع الطّيور. بدل القرآن اقرأوا رأس المال لكارل ماركس أو ما العمل لفلاديمير إيليتش لينين. بدل الحجل ربّوا الدّببة الروسيّة وبدل اللبن، اشربوا الفودكا...!!
لايتحمّل أبي" الشّيخ عفيف" كلام الشّاعر الذي يحبّ شعره في بداياته، حين كان"جكرخوين" يقلّد أشعار الشّاعر الأكبر" ملايي جزيري" ويكتب قصائد الغزل والحبّ متغزّلا بهذه الطريقة بأرض كوردستان وجمال طبيعتها البديعة بالجبال والحجل والغزلان. لايتحمّل أبي ذلك، يستأذن من الجماعة، متعذّرا بظروفه الصحيّة التي تفرض عليه أنْ يذهب.
أمّا الشّاعر"جكرخوين" فيستمرّ في إلقاء كلماته الناريّة، محرّضا الكورد أن يثوروا على الإقطاعيّين، أن يسترجعوا الأرض منهم ويزرعوها بأنفسهم. أن يقتلوا الآغوات ويكفّوا عن تقبيل أيدي الشّيوخ والتبرّك بخرقهم. يستمع النّاس في المجلس إليه بورع وقداسة، لكنّهم يتململون ويضجرون شيئا فشيئا، خاصّة حين يبدأ "جكرخوين" بنقدهم وتعنيفهم والتهكّم على معتقداتهم ودينهم تهكّما حادّا، متجاوزا فيه ومفرطا في خطبة طويلة عريضة. يبدأ الكثيرون منهم بالإستئذان، واجدين لهم الأعذار المختلفة. ويبقى فقط في المجلس بعض مضيفيه من "آل جلبي" وأيضا "صدقة"،"مُلاّ سليمان" وعمّي" الشيخ صدري". هم أيضا كانوا يريدون المضي، لكنّ حبّهم ل"جكرخوين" يعميهم تقريبا عن شططه واسرافه وإلحاده...
- قولوا ل"الشيخ عفيف" أنّه مصيب في الكثير من نقده لأشعاري وخاصّة من النّاحية الشكليّة والعروضيّة، حيث لا ألتزم التزاما دقيقا بالأوزان الفراهيديّة، الأهمّ عندي هو المضمون الثوري، الماركسي اللينينيّ. ويجد الفنّان"شفان برور" حلولا موسيقيّة لشذوذات الأوزان والقوافي بعد ذلك. لكن مع ذلك، قولوا له أنّ يجمع نقده في كتاب ويطبعه. نقد الشّيخ نقد ذكي وأعرف أنّه قارىء نهم لمجلّة الهلال المصريّة وتتلمذ في الأدب على أيدي العقّاد ومبارك والرّافعي. المهمّ عندي هو التغيير السياسي الاجتماعي ثمّ يأتي بعد ذلك في مرتبة ثانويّة الشكل والموازين والصّور والخيال..!!
يقول"جكرخوين" ذلك، ولكن الجميع يبقون صامتين، وجلين خوفا من أن ينقدهم ويصبّ جام غضبه ونظريّاته هذه الجديدة على أرواحهم البسيطة المحبّة في رومانسيّتها وشوقها. يدرك"جكرخوين" أيضا أنّه بالغ في التهكّم والنقد والسخرية من الناس وحياتهم ومعتقداتهم حتّى انفضّوا من حوله وبقي فقط أكثر المحبّين له.
- أعرف، لم يعجب النّاس ما قلته عن نعاسهم وخمولهم وبقائهم حميرا ومريدين. لهذا فرّوا واحدا تلو الآخر من مجلسي. وبقيتم أنتم الثلاثة الذين حبّكم لي أكبر من أن تنقدوني وهذا أيضا يزعجني. رجاء، لاتجعلوا منّي صنما وشيخا بدل شيخ. أنا أيضا انسان مثلكم.. دلّوني على حانة ولنرَ بعد ذلك...
تتهلّل أسارير عمّي" الشيخ صدري" ويقوم منتشيا، مستشهدا ببيت من القطب الأكبر سيدايي "ملايي جزيري"
- ديسا ﮋنو بي حاله دِل     ساقي ورين جاما زجاج
يردّد البيت منغّما إيّاه على طريقة الفقهاء، مظهرا إيقاع التفعيلات بشكل بارز، مستفعلن، مستفعلن، مستفعلن، ديسا ﮋنو بي حاله دِل، مستفعلن، ...، جاما زجاج...
- أنا منتش من الخمرة الربّانيّة"سيدايي جكرخوين". أنا منتش من حضورك ووجودك في عامودا بيننا. أكحّل عينيّ برؤيتك ومرآك يا شاعري الكبير. يقول عمّي"الشّيخ صدري"
" المُلاّ سليمان" ينهض أيضا من مجلسه ويميل بجسده الطّويل يمنةً ويسرة على ترنيمة البيت الذي ينشده عمّي. و"صدقة" يأخذ "جكرخوين" إلى مقربة من دكّانه، دكّان القرطاسيّة والطوابع ودواوين الشّعر الكورديّ. هناك حيث بالقرب منه حانة" بيت هيلوني". يدخل"جكرخوين" الحانة لوحده وينتظره" صدقة" في دكّانه ريثما ينتهي"جكرخوين" من شرب الخمرةِ البشريّة المسيحيّة في عامودا وطبعا يجوز للشّاعرو ل"جكرخوين" خصوصا ما لايجوز لغيره.
بعد ما يقارب السّاعة يخرج"جكرخوين" محمّر الوجه قليلا من تأثير الشّراب. يأخذه"صدقة" ويذهبان إلى عمّي و"ملاّ سليمان" .
- يا عزيزي" الشيخ صدري" هاتِ رمزنا، الحجل الذي تخبّئه تحت جبتك الخضراء، جبة المشيخة. كم أنا ممتنّ لك، كم أنا شاكر لك.
يعطيه عمّي الحجل، فيتأمّل جكرخوين في أرياشه. يمرّ بيده على جناحيه وبطنه، يقرّبه من فمه ويقبّل منقاره القرمزيّ. يأخذه إلى صدره ويبقيه عدّة دقائق هناك، حاضنا إيّاه بلذّة ورقّة.  
- اللعنة على لينين والدّببة وماركس. هلاّ أخذتموني إلى أحد الأعراس...
- بلى، يا أستاذنا الغالي. اليوم على مشارف طريق القامشلي، بالقربِ من مخازن الحبوب يقام عرس أحد أبناء "آل الدقوري".
يذهبون إلى العرس، يلتقون بالشاعر الشعبي الذي سبقهم إلى هناك"صبري خلّو سيتي". العرس على قدم وساق. الطبول تدوّي والأبواق ترافقها. سريعا ينضمّ"جكرخوين" إلى حلقة رقصة "الشيخاني" أخذا من كلا الجانبين بالأصبع الصّغرى لفتاتين فتّانتين. يدخلُ عمّي" الشيخ صدري" في وسط دائرة الرقص بجلبابه متمايلا وراقصا، يخرج الحجل ويطلقه بالقرب من رأس "جكرخوين":
- لقد عاد"جكرخويننا"، عاد كبدنا المدمّى، حان للكبد المريض أن يشفى وحان للحجل أن ينطلق. ثانية القلب حاله تعيسه، فلتجلب أيّها السّاقي جام الخمر الزلال...ديسا ﮋنو بي حاله دل...بي حاله دِل...ساقي ورين جاما زجاج... جاما زجاج...!!
 










سمكة المهرّبين
 
كان مهرّبا ذا قلب، حتّى المافيا لها قلب، حين رأت المرأة الحامل معنا في الثّلج العظيم هذا وبعدئذ حين أخذنا البوليس في شاحنتهم ورقص وغنّى فوقنا وفوق السيريلنكيين الجند الليتوانيّون وأنا بقيت ساقي تحتي وكادت أن تنكسر لولا أنّ الشاحنة ارتجّت وسحبت ساقي. الذي يريد أن يهاجر ويصل إلى ألمانيا عليه أن يحسب حساب أن يمشي على جثّته. يقول صديقي المحامي. شاعر ومحامٍ في السّجن وباكستانيّان. أحدهما شيخ كبير السنّ كان يبيع الورد في ألمانيا ويصف الألمان طوال الوقت ويسب الروس الكفّار بالألمانيّة. تناسبك باكستان يا أيّها الشاب الشّاعر. أنت تتقن اللّغة العربيّة. سيكون لك مستقبل عظيم في باكستان. الآخر الشابّ يتكلّم عن مرضه. أربعة أشهر كاملة وتأخذه الحمّى ويسعل ويخبر البوليس الحارس في السّجن أنّه مريض ولا أحد يهتمّ وأخيرا يكتشفون أنّه مصاب بالملاريا وكنّا في زنزانة واحدة. كيف لم نصب بالملاريا أيضا في السّجن.
الله أعلم...!
مدينة مينسك مدينة حديثة الطراز. هناك بنايات ملوّنة وعالية. ويغطّيها الثّلج والناس في المعاطف والأطفال على الزلاّجات والكلاب مع النّاس. ربّما تكون أحدُ الصيدليّات مفتوحة فنشتري علبة من حبوب الديازيبام بمئة دولار. أكون جاهزا أن أدفع مئة دولار لأبي سامر كي يشتري لي هذه الحبوب البرتقاليّة، الصّغيرة الحجم. هكذا أقول له وأعرف أنّه يمزح ليجرّب هل أنا مدمن أم لا!. سأعطيك مئة دولار من دولارات هدّود المهرّب ونشتري هذه الحبوب التي لا طعم سوريّا لها يا أبا سامر السوري الدّمشقي. أبو سامر الدّمشقي السّوري متزوّج من امرأة بلاروسيّة وزوجها يشتغل عنده سائقا والدّمشقي مصاب بيرقان من النّوع العويص وهو متعب.أفكّر كان على أبي سامر الدّمشقي أن ينزوي في زاوية من دمشق أو في مقهى ويكتب الشّعر بدل ركوبه السيّارة وقيادتها على دروب التهريب في كييف ومينسك وربّما أيضا بولونيا. أعطاني المهرّبون السمك وحبوب الاسبرين فلم أقل للبوليس أنّهم هم الذين رمونا في الثّلج حين أراني صورهم واحدا تلو الآخر وكان صديقي المحامي يقول:" سأكشف للبوليس كلّ ما أعرف وأزجّ بالمهربين في السّجن ولو أنّني أكلت سمكة المهرّبين ولو أنّهم أعطوا امرأتنا الحامل حبوب الاسبرين ولو أنّ أحد المهرّبين أخذني إلى خارج الكوخ الذي كنّا فيه مع السيريلنكيين الأربعين وأراني حدود بولونيا. فقط مصابيح وكلّ شيء ثلج".
قبل أن ندخل السجن أريدُ أنْ أرى وجوه الفتيات الروسيّات وأيضا الغابات البيضاء والشاحنات التي تنقل جذوع الأشجار المقطوعة. أريد أن أشبع عينيّ قليلا من الحياة وأعرف ربّما يطول السجن لخمسة أشهر. هكذا قال لي رئيس البوليس الشاب الذي كان يتكلّم الإنكليزيّة، يجب أن نرى الحياة جيّدا قبل السّجن، فالسّجن يطول. كان ينبغي فقط أن نبقى لعدّة أيّام لكنّ الكون كلّه ثلج وليس هناك اتّحاد سوفييتي بعد ولكن كلّ شيء يبدو روسيّا. الثّلج والعواصف الثّلجية والسوبرماركات التي تفوح برائحة لحم الخنزير. العجائز اللواتي يبعن جزرة واحدة أو طاقيّة واحدة في سوق الحيّ والجبن الأصفر في المخازن وأيضا البطاطا.  يا عبد الهادي لقد بطّطت الركّاب، يقول أبو رامي ويخبر بعض المافيا اللبنانيّة في كييف كي تلتفّ على عبدالهدّود وتختطف المحامي وتنهب الدولارات من حصاد الجزيرة. لكنّ عبدالهدّود يطعمنا البطاطا فنتبطّط وخاصّة سعيدو ينسى أنّه من القامشلي من الشوق إلى أخواله في الثّلج الأغنى من هذا الثّلج في كييف. كان عليّ منذ زمن طويل أن أرافقك وأرافق حسّون والمحامي المبجّل الذي يعرف كيف يتمّ المحافظة على نظافة شقق الكييفيين والأوكرانيّين. في العائلة يعيش الشّخص مدللا وهنا يتعلّم القساوة من أكل الجبن والبطاطا والبقاء في الشقّة خوفا من المافيا الروسيّة وحيث أردتُ أن أحوّل مئة دولار إلى الكوبون الأوكراني. أخذه الأوكراني وأعطاني بدلا عنه دولارا واحدا والدولار والمئة دولار يتشابهان، فلم أميّز إلا اللحظة.  ليتني خدمت في الجيش كي لا تنطلي عليّ مثل هذه الخدع. كنت أستطيع أن أضعك في غرفتي التي تشبه الزنزانة في عامودا وأقفل عليك الباب وتعطيني لأجل تعويدك على السّجن والقسوة النقود التي دفعتها لعبد الهدّود الدمشقي العاموديّ الطّائر بالطيّارة السوخوي التي كانت تشبه تركتورا عتيقا متعبا وكنت أعتقد أنّ هذه الطّائرة لن تبلغ كييف أبدا. وفي هذا الثّلج العجيب الكبير كيف سمح لكم آباؤكم وأمّهاتكم أن تسلكوا هذه الطّرق المتعرّجة، المزروعة بالمافيا الملثّمة وبالرشاشات الروسيّة وبالمهربين الذين يعطون حبوب الاسبيرين للحوامل. لقد رأيت دموع المهرّب المافياويّ الذي كان قد تلثّم وادّعى أنّه دكتور وأيّ دكتور هو يا شيخي!  وهو الذي أعطى الحبوب لامرأتنا الحامل.
نأخذ أنا وحسّون ناصيف إلى الطبيب. أيّ طبيب في هذا اللّيل ونحن لا نتقن الروسيّة ونأكل البطاطا من احضارات عبدالهادي أفندي وقد بطّط الركّاب كما قال أبو رامي الدمشقيّ الزعران أبو شنبة. أكل ناصيف بصلة مطبوخة في الماء من اعداد حسّون وأصابته آلام في البطن وكانت آلاما شديدة ولا يستطيع تحمّلها ناصيفنا العزيز. في الطائرة التركتور المرتفعة فوق هولندا وبلجيكا وألمانيا والبيوت القرميديّة كانت الشّمس تشرق وأنا كنت بالقرب من النافذة أرى الأرض المنخفضة والأنهار ولم يكن ناصيف معي. كنت وحيدا هذه المرّة وكنت أفكّر في ناصيف في الطيّارة الأولى في حياتنا، ذهبت إليه والطيّارة قبل أن تطير، كان منكمشا ويقرأ الفاتحة مثلي في الطيّارة الهولنديّة أو الأردنيّة. لماذا هذه الطيّارة الروسيّة اسمها طيّارة. فقط باص من باصات الجمعيّة التعاونيّة ولم يكن يعلم ناصيف أنّه سيصاب بآلام لا تطاق في كييف بعد أكله لبصلة حسّون المطبوخة. يا أيّها الصّديق الشّاعر! طريقنا شاقّ ولم نأتِ لنستريح في ألمانيا وهم يرمون المهاجرين بالأحجار ويتفلون على الأرض ويشيحون عنهم بوجوههم، تعالَ نتابع الطّريق إلى السّويد!! لقد اعتدت على معسكر اللّجوء.. كم ألمانيا مثل كوردستان. كوردستان كلّها حدود ولا نعرف إلاّ أهالي سنجقي وعامودا والدرباسيّة وهنا كورد من كلّ كوردستان. لقد اعتدت على كوردستان ألمانيا...!
أنا سأطير إلى أختي في السويد.
وأين المرأة الحامل معنا!؟ إنّها وضعت وليدها في ليتوانيا الجميلة في إحدى المستشفيات وزوجها خرج من السّجن وذهب إليها. أين المحامي المبجّل؟ إنّه اختفى كليّا. أين سعيدو؟ لقد أخذ الصّور وذهب إلى بيتكم ليريها لوالدك وأين طارق؟ إنّه يشتغل في مطعم أعمامه. أين السيريلنكيّون الأربعون واللّيل الذي على بشرتهم؟ إنّهم في تلك الغرفة في مينسك وتطلب منهم صاحبة الشقّة أن لا يتركوا شايهم في المطبخ، حيث زوجها الممسوس الذي يقطع المطبخ جيئة وجيئة وجيئة يأكل الشاي ليلا. يأكل الشّاي اليابس وصاحبة الشقّة امرأة لطيفةٌ جدّا تهتمّ بالسيريلنكيّين، إنّهم دخلها ودخل رجلها المجنون الذي يأكل الشّاي ويأكل السيريلنكيّون الرزّ كلّ يوم. الرزّ لهم كالخبز لنا. وأين الشيخ الباكستانيّ الذي كان ينصحك أنْ تذهب إلى باكستان وكان سابقا في ألمانيا ويطلب من المحامي أن يرسل له كاسيتات عبدالباسط عبدالصمد القرآنيّة، إن عاد إلى سوريّة؟. يا صديق السّجن، شعرك مثل البرغل الجاف، لا يُقرأ إلاّ في السّجون. أين الشّابّ الباكستاني والشاب السيريلنكيّ، صديقك الذي كنت تتكلّم معه ومع الروس بالإنكليزيّة ولم تتعلّم الروسيّة ونحن في السجن تعلّمنا الروسيّة كلمة كلمة بمساعدة حرس السّجن. وأبو سامر المصاب باليرقان وأبو رامي وأخوه في بولونيا...أين الحاج ماكس يا حسّون!!؟



الحجحجيك


خالتك "سِرَيّا" خرزة بين عامودا والقامشلي. إنّها خرزة "نجموك"، تشعُّ في سماء القريةِ الزّرقاء والبنفسجيّة. لونها يتبدّل من الأزرق في عينيها إلى الأشقر في شَعرها وشعر أولادها،البنات والبنين. بنتها عارفة، عمرها عشرون عاما. سنزوّجها بكَ. خالتك "سِريّا" ذات قامة كالآبار رطبة مثل الغيمة بعد القحط. خالتك طوق الخرز على خاصرة القرية وهي ليست الصّغرى من بنات أمّي الستّ. في أسفل القرية،إلى اليمين من الطّريق العام يقع البئر. إنّه في الوادي وبيت خالتك عالٍ، على الهضبةِ، كي يعبر به السّيل بغير سوء، إن أغرق السيل البئر والطّريق. وهناك قبرُ وليّ ذي قماش وخرق خضراء، ذي شاهد من الحديد وعليه عقد الأخضر وكفٌّ مفتوحة هي كفّ الوليّ من النّحاس. يخيف ليلا وأحيانا نهارا. خالتك ذكية، وحنونة. في الشّمس تصبح عمياء وفي الّليل ترى الأسرار وتمشي أيضا بغير ضوء. خالتك خرزة " صوفي" و" نجموك".
حين كنتُ في " نجموك" صغيرا جدّا، رفعت بصري حين شاهدتُ ظلاّ كبيرا يغطّي المساحة فوقي، فرأيت حذاء " صوفي" وسرواله الفضفاض ولحيته التي بخمسة أشبار في الأعلى. كان يقفز من سطح غرفة الجلوس مجتازا باحة البيت وباحة الزريبة وحاطّا على سطح الاصطبل، اصطبل الأغنام. كان نعله من الكوتشوك، وسرواله فضفاضا ورماديّا ولحيته أيضا رماديّة وقفز بسرعة كبيرة وأحسست أنّ نسرا أو ربّما حصانا يطير فوقنا. هذا قبل ثلاثين سنة.
المساحة بين سطح غرفة الجلوس وسطح الاصطبل ثمانية أمتار ونصف ويقفزها "صوفي" زوج خالتي "سِرَيّا" قفزا. هذه عادته حين يسيّع الأسطح بالوحل في الخريف، قبل هطول أمطار الشّتاء القادم. طبعا وسطل الوحل في يده...
كنّا لا نعرف قبل أن نزوّج "سِريّا" ل"صوفي" أنّه يقفز قفزاته الكبيرة تلك من سطح إلى سطح وأيضا فوق عربة القشّ الذي يجمعه ليبيعه في أسواق القامشلي. ولا نعرف أيضا أو لم نرَ لحيته التي بطول خمسة أشبار والتي كانت آنذاك محنّاة، برتقاليّة وليست رماديّة وحين رأت خالتك"سِريّا" عينيه اللامعتين ولحيته المحنّاة، قالت أنّها وقعت في حبّهما وفي حبّه وطلبت أن نوافق. حين جاء لطلب يد خالتك" سِريّا" ذات الشّعر الأشقر واللّون الأشقر قريب من البرتقالي، لم نفهم لِمَ جاء إلينا "صوفي" ولكنّ "سِريّا" حين التقت عيناها بعينيه، فهمت أنّه جاء يريد أن يتزوّجها. بعد ذلك أدركنا أنّ " صوفي" لايتكلّم، ليس أبكم، لكنّه لايتكلّم و"سِريّا" تكلّمت معه بعيونها، قالت:" نعم أريدُ أن أكون خرزة ل"نجموك" وبئرا ل"صوفي" ليقفز فوقي وأنا شقراء أناسب لحيته المحنّاة". قالت:" صوفي وليٌّ من أولياء الله، يتكلّم بعيونه ويقفز لمسافة ثمانية أمتار ونصف فوقي وفوق أولادي من سطح إلى سطح بتنكة الوحل في يديه." وقالت "سِرَيّا":" أشتاق إلى أن أكون بئرا لأسرار "حجحجيكي" ذي اللّحية البرتقاليّة. "
أخي وأختي ذهبا إلى"نجموك"، إلى بيت خالتي" سِريّا". تحت عواميد الخشب، في فتحات وكوى الزريبة الطّويلة بالكثير من الأغنام والبقر والأحصنة والديكة والدّجاج يعشعش" الحجحجيك" الأسود ويطير ويضع بيوضه ويصبح له فراخ بجلد أحمر فاتح والفراخ عمياء وتبقى قشور البيض بعد أن تخرج منها الفراخ الضعيفة. لا يستطيع" الحجحجيك" أن يمشي على أرجله الضعيفة كالطيورالأخرى، إنّه يطيرُ في السماء الزّرقاء ويخرج صوتا جميلا يثير الصّيف والنّوم على السّطوح ويهاجر في الشّتاء ويسمّى لهذا " حجحجيك". إنّه يذهب إلى الحجّ وهو أسود كالحجر الأسود إلى حيث يهاجر ويأتي إلى" نجموك" صيفا وإلى عامودا فنسمعه يغنّي لنا أصواته عاليا جدّا في السّماء. لا يحطّ على شجرة، فقط يندفع أحيانا مقتربا من المواضع التي يجري فيها ماء وأحيانا يصنع " الحجحجيك" سربا بأشكال هندسيّة.
"أنا أيضا أريد أن أرتفع كالحجحجيك أيّها الشيخ الخزنوي" يقول"صوفي" محدّقا في طاسة الماء التي أمامه والتي ترتفع عليها الفقاعات. "لا تكفيني الأمتار الثمان التي أقفزها من سطح إلى سطح، أيضا فوق العربة المحمّلة بالقشّ رابطا فوقه بقوّة الحبل. أريد أن أطير كشيخي الخزنوي وأستطيع عبور الألغام وأنْ أذهب طائرا إلى قرية "خزنة"، إلى شيخي". ترتفع الفقاعات وتصدر أصواتا كأصوات السنونو. يفتح "صوفي" ذراعيه محدّقا إلى الشيخ الذي في طاسة الماء أمامه ويقلدّه. ونقول نحن الأولاد في صدورنا:" ولِمَ لا! إنّه يقفز ثمانية أمتار ونصف، فليعطه شيخه أنْ يستطيع أن يطير ويقول" صوفي" لنا،نحن الأولاد:" سوف أجلب الحبال التي أربط القش بها وأعلّقها بين لحيتي والحجحجيك والحجحجيك يطير وأنا أقفز ثمّ أطير". طبعا تترجم لنا خالتي"سِريّا" ما يقوله" صوفي" حيث تتحاور معه بعيونها. ما هذا الرّجل العجيب النادر الذي تزوّجته خالتنا، خرزة" نجموك"!! . ويقفز" صوفي" بين سطح وسطح في هذه الأثناء وتنظر إليه خالتنا"سِريّا" بخرزتين في يديها ويقول" صوفي":" سأحضر الدّيك لذبحه للأولاد". ما الذي قاله"صوفي" أيّتها الخالة"سِريّا"؟
يقول، سيجلب الدّيك، لذبحه للأولاد في الحوش.






























قبل ذلك غسلت رأسي بالكازوز

أنت شابّ أزعر وبطلونك الجينز تلفّه، باطنه في الأسفل إلى الأعلى حسب موضة الزعرنة ولقد رأيتك هناك في حارة الراشنية أو الراشديّة كما يسمّون أنفسهم في لبنان، تركض وراء الفتيات في الأعراس وقصائدك تشبه أغاني فيروز. ويرقص محمودي حسّي كرقص الخربى كافري وربّما أفضل منهم حيثُ تدرّب أكثر منهم وحيث رقصُ الخربه كافريين معروف ومشهور، الأكتاف إلى الأكتاف، الأيدي بتماسك بالأيدي ورقص بنغم سريع، متكاتف وكلّهم شباب متمرّنون على صنع الوحل في الخريف وبناء البيوت ورقصهم يناسب قوّة سحب حبال سطول الوحل إلى سطوح البيوت. أيضا عبدالرحمن أو حنون ينتمي إلى فرقة رقصنا في مدرسة المعرّي واقترحت على الفرقة أن تتّخذ محمودي حسّي مدرّبا أومديرا لفرقتنا. محمودي حسّي الذي يشبّه قصائدي بأغاني فيروز ويتّهمني أنني أصبحت زعرانا والذي ذهبنا سويّة، متّبعين الصوت العرسي المرتفع بالقربِ من مستودعات الحبوب وكان عرس أحد شيوعييّ عامودا وجدارالبيت المنخفض ورآنا الراقصون ولم نتجرّأ نحن الاثنين أن ندخل لأنّ العرس كان في الباحة بخلاف أعراس العامّة على الشارع أوفي الخلاء.  
يكوّم عبدالعزيز الخالدي يديه وأصابعه أمام فمه ويخرج نغما وصوتا شجيّا ومطربا في الآن ذاته. إنّها أغنية ونغم وأيضا تاريخ لانعرفه جيّدا، تاريخ نغنّيه ونرقصه ويدا عبدالعزيز الخالدي، صديقنا في الصفّ العاشر والبالكالوريا أمام فمهِ. بيت الخالدي على الضفّة الأخرى إلى مابعد المستوصف البلدي والنّهر. ونحن نرقصُ رقصة الكورمانجي، أو نحاول أن نرقص هذه الرّقصةالكورديّة الصعبة ونعرف، من لا يعرف الكورمانجي رقصا فهو ليس كورمانجا وكوردا. الحكمة الشّائعة التي ليس لأجلها نحاول أن نرقص الكورمانجي علىأنغام مزمار عبدالعزيز الخالدي في مدرسة المعرّي بعد أن نزل المطر في الباحة وبعد أن ذهبت الغيوم باتّجاه معمل البلوك لبيت صديقنا عبدالرّحمن وعبدالوهاب معجون. لقد ذهبت إلى الجزيزة، جزيرة بوطا وجاءت الشّحاريرُ والبلابل أفواجا أفواجا وغنّت الشّحارير والبلابل على ضفاف الأنّهار في جزيرة بوطا وحبّي ومعشوقي في جزيرة بوطا، تقولُ الأغنية بلحنها الذي يتصاعد من  أسطح باحات عامودا والقامشلي والدرباسيّة ونحن الفتية نهزّ أبداننا ويحمرّ مزمار عبدالعزيز الخالدي ووجنتاه بحبوب المراهقة وما بعد المراهقةِ. ونحن نرفع الأرجل قليلا، أنا وابن خالي مدني فوّاز وسعد ابن الحاج يحيى ومحمود ابن بيت جوعان وطبعا عبدالرحمن معجون وعبدالوهاب معجون يضحك أثناء الرّقص. وغنّت الشّحارير فوق مدرسةالمعرّي حيث أتى المطرب المردنلي رضوانو ابنيّة وغنّى لنا في أثناء معسكرالصفّ العاشر الأغاني المردنليّة بألحان عاموديّة كورمانجيّة راقصة. حين انتهيت من الرّقص الشّيخاني، نظرت إليّ مها بشعرها المفتول الطّويل الأسود المجعّد وتعجّبت أنّي أنا أيضا أرقص. نعم أعرف أن أرقص الشّيخاني وأتعلّم مع شلّة الشّباب الآخرين رقصة الكورمانجي على أنغام فم عبدالعزيز الخالدي في باحة المدرسة. وكنتُ واقعا في حبّك مع صديقي غسّان وهو الآن يحاول أن يقترب منك دون أن يفلح تقريبا. مها طويلة وكنتُ أراها برفقة غسّان ونحن في الشّارع نتمشّى وهي تفرش البسط فوق السّطوح وينظرُ غسّان إليها بغير توقف وحين يتعب، أنا أنظر بدلا عنه وفي الليل بدأت مها تناديني أن أمشي في النّوم  إلى سطحهم ولم أفعل أبدا.
في الأعراس أنا على أشرطة الفيديو وقميصي أزرق بلون سماء العرس على الشّارع ورضوان صبري يغنّي شيرين هي السكّر الطويل، أنا برفقة صديقي ابراهيم الخيّاط وأرقص في القامشلي. قبل ذلك غسلت رأسي بالكازوز.
فرقتنا الرّاقصة انضمّ إليها أيضا طه حني وآخرون وسعد ربيعي وفي هذه الأثناء جاء الصيف وارتفعت مكبّرات الأغاني والفتيات بدأن يرششن أمام أبواب بيوتهنّ الماء والسيّارات المزدانة بالأرياش والبالونات والألوان والأبواق الطويلة النحاسيّة بدأت تثيرُ الغبار وكنّا نحن شلّة المطرب عبدالعزيز الخالدي قد كبرت قامات رقصنا وصرنا ننتقل من عرس إلى عرس بغير دعوة، صرتُ صاحب أعراس كما يقول عنّي محمودي بيت جوعان. كما يقال عادة للذي لا يفوّت أيّ عرس واكتشفت أيضا أن جارنا محمودي حسّي أيضا صاحب أعراس.
في أثناء حصاد العدس سعد الحاج يحيى يسقط في الحبّ بعد المراقبة وفتاته التي يحبّها شقراء وحمراء الشفاه وهو يكتم حبّه ولكنّ الحبّ يميل به شمالا وشرقا ويغنّي أغاني فارسو ويصف فارسو لي وتعليقات النّاس على اصداره الكاسيتات في المساء والصباح واللّيل. أو يأتي أبو الحاج ويغنّي أغاني سعيد يوسف ويقول عنها أنّها شعر خالص ويستشيرني في ذلك وفي باص الجمعيّة التعاونيّة نأتي من القامشلي والباص يعجّ بالنّاس وفي المقعد الأخير يجلس سعد. للحب ثلاثة أنواع، الحبّ والكوب والغوب. وأيضا يضرب كفّه على الناحية اليمنى من صدره فيصدر صوت الكوب ولكن قلبك ليس في النّاحية اليمنى من صدرك يا أبا الحاج.  من الحبّ صار في اليمين. ويأتي سعد إلى أبي ويقول لي سعد. لقد قال عبدالسّلام العجيلي في إحدى المقابلات التلفزيونيّة أنّ الخاسر في الحبّ هو الرّجل وقلتُ ذلك لأبيك الشيخ حين كان يتحدّث عن قيس بن الملوّح الذي يصف قلبه بقماش يشتعل فيه النّار. فعلا قلوب النّساء حجر وصدق عبدالسّلام العجيلي وفارسو المسكين يغنّي مساء وصباحا وليلا والنّاس لا يفهمون مثلما ليلى. نزيرو القصّاب الذي باع للنّاس لحم الحمير يحبّ أغاني فارسو في دكّان قصّابيّته بالقرب من جمعية الباصات ويقطع اللحم الهبرة على شجى حبّ فارسو. إنّه شخص فقير وربّما هي دعاياتٌ بيعه للحم الحمير لأهالي عامودا الكرام. في العدس الماضي وقعت في حبّ شعرها الأشقر وفي هذا العدس آكل الصّيف كاملا شوقا ورأيتها يوميّا حين كنت أعبر الجسر وروث البقر يفوح ولكنّي أرفع نظري وأرى حجر قلبها يبرق في الشبّاك المضاءِ، من الأفضل أن أذهب إلى الشآم وأحضّر للامتحانات فهي على الأبواب وكتب التّاريخ الفرعوني ضخمة للغاية.
 
أنا صاحب الأعراس مثل فارسو وسعد الحاج يحيى أذهب إلى الشّحارير والبلابل وفي الطريق أقرأ أشعار الملا الجزيري. العرس رمز الفرح ويرى المرء مؤخّرات الفتيات الكورديّات وملابسهنّ برّاقة بالقصب عليها ومشدودة وألوانها من ألوان العلم الكوردي. كلّما سمعت وقع طنبور اتّجه إليه برفقة محمودي حسّي وأركض خلف الفتيات الراشنيّات في ألمانيا اللواتي يدّعين أنّهنّ لبنانيّات.أذهب إلى سوق السبت بعد أن أكون قد صمت يومي وفطرت في بيت جوهر. وأمدّ بيدي إلى خلفيّاتهنّ. ألا تجيء عزيزي الشّيخ، فلربّما دبّرت لك أيضا فتاة راشنيّة في الفلوماركت. عليك أن تنتبه، ألمانيا تطرد حاملي الدلدونك. حاول أن تهرب من ألمانيا إلى السويد أو هولندا أو فلتتزوّج من سوق السبت واحدة من اللواتي تمدّ بيدك إلى مؤخّراتهنّ. حسّو، استمع إلى ما أقوله لك واجعل من كلامي قرطا في أذنك. في الأعراس أنا على أشرطة الفيديو وقميصي أزرق بلون سماء العرس على الشّارع ورضوان صبري يغنّي شيرين هي السكّر الطويل، أنا برفقة صديقي ابراهيم الخيّاط وأرقص في القامشلي. قبل ذلك غسلت رأسي بالكازوز. في القامشلي، محمد رفّي يعرف بالضبط في أيّة حارة وبالضبط لماذا. محمد رفّي يعرف كلّ شيء. جاء أبوك ورمى بسلّة الزّبل في غرفتك ليزداد وحي الشّعر عندك هكذا يُقال في جامعة حلب عنك وأيضا أنّك سكبت زجاجة كازوزسينالكو على رأسك في القامشلي. أنت تخلط بيني وبين أخي وبين فتيات الراشنيّة في الفلوماركت وبين أمينة وبين محمّد رفّي وحسّو قبل عدّة أعوام. أنت تخلط بين سعد الحاج يحيى وبين أخيه صديقي عيسى وبين فريدون، منذ اثنتي عشرة سنة وأنا أحبّ مها، بعد أنْ تزوّجت صار شعرها أشقر بعد أن كان أسود داكنا ومجعّدا وغيّرت اسمها للعديد من المرّات وتمدّدت على ضفّة نهر الخنزير الجاف، فرأيتُ ثدييها الشابّين الصلبين...
- حسّو، اهرب من ألمانيا...!!
 




























وردة المحلميّة
بجاهك، بجاهك. يا سلطان، يا سلطان
 
ابن النجّار الذي تزوّجها كان أيضا من عائلتنا الكبيرة المنتشرة بين الكورد والمردنليين والمحلميين والراشنيين، أنسابنا اختلطت، فلا نحن كورد ولا نحن عرب. نحني محلميّة راشنيّة من عامودا.
يأتي عبدالقادر في منتصف الليل من الخمّارة ويهجم على الجدار الذي بناه بيت سينو. هذه حصّة بيتنا والممرّ ينبغي أن يتمّ تقاسمه بحصّة متساوية. يهجم على الجدار ويضربه بركلاته وقبضاته، فينهار الجدار المسكين الذي لم يجفّ اسمنته بعد وتهرع حسينة. لقد فضحتنا قادو في هذا اللّيل، أيّها السكران، أنت لست ابني. تستيقظ الحارةُ على الصياح المنبعث وهذه هي المرّة الخامسة. نفس الجدار يبنى ويركله عبدالقادر، خارجا من الخمّارة، مستمدّا الجرأة من خمره، هاجما على الجدار وبيت سينو يبنونه في اليوم التالي ويركله عبدالقادر ويهدّمه في اليوم التالي. كانت لمعتي مثل الشّمعة تتمايل في أحياء عامودا وتميل عليها أضواء الشتاء فلا يعرف النّاس، أهي بشرٌ أم شرارة خرجت من بطني ومن ظهر زوجي فرحو. لمعتي سمّيناها هكذا وقامتها الطّويلة تصل إلى نجوم ماردين وأضواء ماردين تأخذ قبسها من لمعة عينيها. ابن النجّار الذي تزوّجها كان أيضا من عائلتنا الكبيرة المنتشرة بين الكورد والمردنليين والمحلميين والراشنيين، أنسابنا اختلطت، فلا نحن كورد ولا نحن عرب. نحني محلميّة راشنيّة من عامودا. ابن النجار صنع للمعة صندوقا مزيّنا بحمامات زرقاء ورؤوس شمعات ودخلت لمعة إلىالصندوق ووضعها ابن النجّار على الرفّ وجلس ينظرُ إلى شمعته. بعد أن قبّلا بعضهما البعض ودخلا في فرشة الزّواج على سنّة الله ورسوله وأخذا من المتعة والثّمار التي زيّنها الله على ابن آدم وابنة حوّاء. ناما متعبين من عسل البشرة البيضاء والممارسة بعد الممارسة والتغيّب والاخراج والادخال. ابن النجّار صنع للمعة صندوقا يشبه التّابوت ووضع لمعة فيه وأخذها إلى مدينة القامشلي. لمعة كانت تنظرُ من شبّاك الصندوق والشمعة التي وضعتها على شفتيها كانت تميل إلى شبّاك بيت أبيها وابن النجّار، الشابّ المحلّمي القامشلي ببذور الكورد والعرب المختلط بالمسيحيّة واليهوديّة والاسلام الحنيف في حارات القامشلي. مدفأة الغاز التي كانت تدفّىء البيت من الاسمنت الصبّ القارس كانت تلمع والأبواب والنوافذ محكمة بشدّة للحفاظ على لذّة الحرارة في شتاء القامشلي وغاز الكربون خرج ودخل بدل الأوكسجين إلى رئة لمعة في حضن ابن النجّار بدل الأوكسجين وخنق رئة ابن النجّار وبقي صندوق لمعة على الرفّ برؤوس الحمامات الزّرقاء. لمعة ذهبت مع ابن النجار، ذهبا مع غاز الكربون في الليلة الأولى من الزواج إلى ضفّة الصندوق الذي كان يشبه التّابوت ورؤوس الليل وخفت منه منذ اليوم الأوّل. الله يضربك يا عبدالقادر... تقول حسينة!!. ألا يكفيني أن أفقد لمعة في ليلة عرسها الأولى وتجيء أنت سكرانا في نصف الليل، فضحتنا قدام العالم والنّاس.
لمعتي مثل الشّمعة تتمايل في أحياء عامودا وتميل عليها أضواء الشتاء فلا يعرف النّاس، أهي بشرٌ أم شرارة خرجت من بطني ومن ظهر زوجي فرحو. لمعتي سمّيناها هكذا وقامتها الطّويلة تصل إلى نجوم ماردين وأضواء ماردين تأخذ قبسها من لمعة عينيها. ابن النجّار الذي تزوّجها كان أيضا من عائلتنا الكبيرة المنتشرة بين الكورد والمردنليين والمحلميين والراشنيين، أنسابنا اختلطت، فلا نحن كورد ولا نحن عرب. نحني محلميّة راشنيّة من عامودا.
ارمي لي من الحائط أمامك، من على سطح بيت فرن محمد علي بوردة المردنليّة من البرلون الشفّاف، يا حبيبتي، عقلك خفيف، تركضين من حائط إلى حائط وهم يضحكون عليك، هؤلاء المخابرات لا جذور لهم. ينتقلون من مدينة إلى مدينة ويتعارصون على بنات النّاس ويلعبون بعقل الفتيات السذّج.
فرس صلاح الدّين الكوردي الأيّوبي في دمشق، بسيفهِ الممتشق باتّجاه القدس. صلاح الدّين الأيّوبي بالقربِ من سوق الحميديّة والجامع الأموي. هذه النخلاتُ، أشجارُالنّخيل المرتفعة فوق أقواس الجامع الأموي والحمامات بأذيالها تنزلُ على المحاريب. في زاوية رأس يوحنّاالمعمدان. إنّه قريبي، صلاح الدّين الكوردي الحسيني. فقير باكستان، فقير باكستان. لله يا محسنون، لله، لمحرّرالقدس الشّريف، يجلس ابن عمّي باسطي تحت أقدام فرس قريبه صلاح الدّين الأيّوبي. كم بخلاء هؤلاء الدّمشقيّون وقريبي الكوردي حرّر لهم القدس ولولاه لكانت دمشق أيضا لحقت بالقدس والصليبيّين!!. لله يا محسنين، أنا فقير باكستان، ما أعرف عربي وزوجتي ضاعت. ما أعرف عربي، فقير باكستان. يحتاج باسطي عدّة مئات من الليرات السوريّة ليأخذ صديقته الجميلة، الدمشقيّة إلى المطعم. يرمي الدمشقيّون في صحنه القليل من اللّيرات ويمرّ عمّي الشيخ توفيق من هناك بعد أن طاف في المسجد الأموي واشترى بعض علب الراتنج وبعض الكتب. إنّه قريبنا باسطي. هذه النّخلاتُ ولون الجامع الأموي ورأس يوحنّا المعمدان في قبره، فقط رأس يوحنّا المعمدان بالقربِ من قبرِ صلاح الدّين الأيّوبي وما الذي تقوله الحمامات بالقرب من رأس يوحنّا المعمدان، ما الذي تقوله أشجارُ النخيل للكوردي المصريّ الدمشقي من بيت المقدس وباسطي ينظرُ إلى ذرى النخيل. فقير كوردستان، فقير كوردستان. أنا الحمامة الزرقاء تنزلُ على قلب المسيح، أنا الحمامة تنزلُ على قلب المسيح والنّخيلُ أتيت على ذراه ببيضي وريشي الهادىء الأزرق.
ارمي لي من الحائط أمامك، من على سطح بيت فرن محمد علي بوردة المردنليّة من البرلون الشفّاف، يا حبيبتي، عقلك خفيف، تركضين من حائط إلى حائط وهم يضحكون عليك، هؤلاء المخابرات لا جذور لهم. ينتقلون من مدينة إلى مدينة ويتعارصون على بنات النّاس ويلعبون بعقل الفتيات السذّج. لا جذور للمخابرات وفتية المخابرات يضحكون علىعقلك المردنلي المحلميّ الساذج ويريدون أن ترمي لهم بفستانك من البرلون الشفّاف وأن يروا فقط أثداءك تحت فستانك الشفاف وأن ترمي لهم بفستانك من على حائط الفرن وقلبي أنا باسطي مثل خبز خارج من فرن محمّد علي يتنفّس بقوّة وشهيّة من أجل فستانك ووردة البرلون المحلميّة الراشنيّة. أسما، أنتظر في بيت عمّي الشّيخ عفيف، واقف منذ عدّة ساعات ورائحة المازوت تخنق حلقي وحبّي ينطّ وينطّ وقلبي يدمدمُ وأسمعُ طقطقة شبّاك أو باب فأرفع ببصري إلى قصركم الذي بنيتموه على بيت عمر وأخذتم نصيبهم من الشّمس والحرارة وأبقيتم لهم فقط الظّلال وأنا أريد وردتك الشفّافة التي ليست حمراء. ينعكس عليها شكل أزهار شفّافة بأزرق خفيف وأخضر خفيف وربّما ليس بأخضر وليس بأزرق، إنّه الأبيض الذي ينعكس على ثوبك، فأرى سرّتك الراشنيّة المحلميّة وأنت مثل ريح فوق قصر فرن محمد علي. أنتظرُ منذ ساعات في بيت المازوت والكاز ورائحة قذارة الحمامات. في هذه الزاوية مثل رأس يوحنّا المعمدان واستجديت لك ولي بالقربِ من تمثال صلاح الدّين المحلمي الأيوبي. فقير كوردستان، فقير حبّ أسما التي تركض من سطح الفرن وتنزل وتحمل أحد أطفال أقربائها وينظر إليها المخابراتُ ووردتها الشفّافة من البرلون تلمع ولا تلمعُ. يرى المخابرات ما وراء الثياب.
السرطان الخبيث دخل إلى مخّ عظمي يا صلاح الدّين. وأرى فرسك تقفز على قلعة الحصن فأرفع يدي لأجل زهرة ابنة المردنليّة والسرطان نشر عظم ساقي وقضى على الشعر في صدري وذراعي ورأسي وحواجبي يا مولاي صلاح الدّين. تتقدّم جحافل الصليبيّين من عامودا وأنت على فرس هزيلةٍ وسيف ضعيف كالهلال والسرطان أودى بقلبي وأحشائي وتراني بدل رقصي في الأعراس أتكىء على العكاكيز وأسما تأخذها سيّارات المخابرات يا مولاي صلاح الدّين الحسيني. شدّ قدمك واحمل عظمك واتبعني يا باسطي، أشفيك بقدرة الله الجبّار وآخذك على فرسي إلى الفردوس. قلبي ضعيف والسّرطان أخذ عينيّ وأمّي وأبي وسيأخذني والحمامات لازالت ترمي نفسها في أغصان النخيل أو تنزل تشرب الماء ورأس يوحنّا المعمدان على مخدّتي يا مولاي صلاح الدّين. والسرطان يلتفّ كالدخان في كلّ مسامة من مساماتي فأسقط من الفرس خلفك على أرض صخريّة وتنكسر جمجمتي. احمل جمجمتك واركض على فرسك وشدّ قلبك على الايمان وخذ الوردة السلطانيّة الخضراء  في يدك وتمسّك إن سقطت أثناء رفع يدك لي بالزّهرة السلطانيّة الحسينيّة جيّدا، فلا يكون لك ألم وتكون لك قوّة بي ومعي وقل:
بجاهك، بجاهك. يا سلطان، يا سلطان.
قالت لمعة لأسما. في حوشنا شجرة رمّان صغيرة، خذي رمّانتين لبيت سينو واعتذري لهم من فعلة عبدالقادر وخذي صحنا من التبولة لبيت عمر واعتذري لهم أنّّنا بنينا هذا القصرالبارد، بارد لا يمكن تدفئته لنا ويحتاج إلى الكميّات الكبيرة من المازوت الغالي وبارد لهم. منعنا عنهم الشّمس والنّجوم في اللّيل والحرارة ونطلّ عليهم مثل المخابرات فنعرف كلّ أسرارهم وأسرار الجيران. أريد بسرعة أن أدخل صندوق ابن النجّار، فأشعر بالخشب والحرارة واسمي لمعة، فالتمع واحرق أعضاء ابن النجّار.
أرمي عليّ بوردتك البيضاء من على الفرن أسما. غدا يأتي عيد النوروز ويرتفع دخان الدواليب المحترقة في حارات عامودا ويقوم الكورد من سبات الشتاء. النوروز الأحمر والأبيض مثل وردة المردنليّة الموضوعة في  تنك الحلاوة والسمن الفارغة على الشرفات وقميص أمينة الأبيض، عشيقة ابن عمّي باسطي. في المساء وسماء عامودا تلفّها أدخنة أسلاك الدواليب. وسيّارة إطفائيّة عامودا الحمراء المخرّبة التي لا تستطيع مقاومة نيران الدّواليب وشرطة عامودا يهرعون مختنقين برائحة الكوتشوك والمخابرات يرتفع زعيق سيّاراتهم في الأحياء الترابيّة البعيدة والأولاد يتقافزون على النّار وكلّ بيت له دولابه وأكبر دولاب يوضع على تلال موزا. أخرج من البيت، فأجد مسيرة في الشّارع العام، شباب من مختلف حارات عامودا يصيحون ويتهاتفون وفي المقدّمة يقودهم ويقول الشعارات وينظّم الصفوف ابن عمّي باسطي. ارمي عليّ بوردة النيروز أسما، أيّتها المردنليّة المحلميّة والكورد والمحلميّة والراشنيّة واحدٌ في الأصل وانسي المخابرات وسيّاراتهم. نرفع حلوقنا بالشّعارات: عاشت كوردستان، عاش النّوروز، عاش مصطفى البرزاني ونتبع تعاليم باسطي وهو يصرخ وينظّم ويسرع ويبطىء. نتقدّم باتّجاه مفرزة المخابرات، فيقول باسطي، عاش السيّد الرئيس حافظ الأسد، ونردّد، عاش، عاش. نجتاز المفرزة بسرعة ونقول فقط عاش، عاش. ندخل في أحد الشوارع المظلمة وتختلط صفوفنا وشعاراتنا وتمتلىء حلوقنا وصدورنا بدخان الدّواليب وننسى حافظ الأسد ونعود إلى شعاراتنا السّابقة. النوروز والنوروزالمبارك في المصابيح والحارات وشرارات النّار في النوافذ وفي أقصى الحارات الفقيرة. نهرع ونتراكض ونردّد الشعارات وراء باسطي إلى أن نصل إلى حارات بعيدة وإلى ساحة ما، يرفع باسطي يديه عاليا إلى مصابيح ماردين. تلك هي نيران أخوتنا الكورد في الجانب الآخر من الحدود، إنّهم يروننا ويرفعون لنا النّار بقدوم نيروز. عاشت كوردستان، عاشت الحريّة، كوردستان يان نمان.
قالت أسما للمعة. لا يكفّ ابن الشيوخ باسطي من ملاحقتي فوق السطوح وتحت السطوح وفوق الجسر وتحت الجسر وأنا آكل بذور البطيخ وأتسلّى مع أبناء المخابرات وأكشف لهم قليلا من ساقيّ فيهبّون في سيّارات المخابرات، يطاردونني في السيّارات ولا يملك ابن الشيوخ باسطي أيّة سيّارة، يذهب يدّعي أنّه فقير من باكستان ليجمع مهري من الدمشقيين وينتظرني ويرفع إيماءاته من بيت الشيخ عفيف وأخشى أن يضربه عبدالقادر يوما ويلحقه بجدار بيت سينو. ليس لي أيّة وردة شفّافة، خضراء أو زرقاء أو ربّما بيضاء كما يقول فقط جسدي أبيض ورشيق ومثل البقدونس والرّشاد في علب التنك وتجتاحني الرغبة فأصعد إلى سطح الفرن، أتدفّأ وأتسلّى...













دَخْلك، دخيلك


الذّئب ذاك أيضا كان من عائلة المشايخ، أقصد مشايخ الذّئاب في دياربكر. كان أحد أخوالنا أو خالاتنا من آل بافي كال في مدينة آمد التي يقال لها الآن ديار بكر.
لكن أمّي! الذين كانوا ينادون خالي ويردّدون تلك الطّقطوقة كانوا أرواح وعفاريت مدرسة التحرّير حيث كان خالي يعمل مستخدما.  في المساء حين كان منشغلا في عمله كان يسمع أصواتا وكان لوحده في تلك المدرسة الشاسعة الواسعة من عدّة طوابق؛ كانت الأصوات في البداية منخفضة وغير واضحة ثم تتضّح الأصوات وترتفع مردّدة:
"يا مدني، يا مدني
دخلك دخيلك مدني."
وهكذا بنغمة مطربة وراقصة وخالي كان يقشعرّ خوفا وهلعا، يترك مكنسته ويغلق الأبواب سريعا؛ فارّا ومطاردا.
خالي مدني يشتغل في الموسم الزّراعي طبّاخا ويجلب صغار القطا ويملك أيضا ثعلبا. الثّعلب الذي سرق قبّعة الشرطيّ وخبّأه في وكره والشرطيّ إن ضيّع قبّعته يأكل غرامة باهظة. شرف الشّرطة سرقه ثعلب خالي مدني.
في تلك السّنين لم تكن عامودا هكذا في الصّيف حارّة، قائظة، لا يطاقُ حرّها. وفي كلّ صيف يعزم أبي أن ننتقل إلى السّاحل، ننشغل نحن أيضا بهذه الفكرة طوال الصيف. أرى السّفن في البحر، أرى فتيات بأثوابهنّ القصيرة إلى فوق الرّكب. نعم، يا أبي، كان علينا منذ زمن طويل أن نهرب من هذا الحرّ ونسكن في السّاحل. ويذهب الصّيف بدلا عنّا إلى السّاحل ثمّ يذهب إلى الماء ونحن في عامودا جذورنا كالأرض، نتبخّر في الصّيف ونتحدّث عن السّفن، أقصد، أنا أحلم بركب الفتيات السّاحليّات. عبثٌ إن حاولت أن تزرع شجرة لوز في حوشنا، إنّه طبقات عالية من التراب، الأخشابِ المتعفّنة، من تنك السقوف والقشّ البنيّ والأسودِ، لا تكبر شجرة توتٍ في باحة بيتنا ولا تكبرُ شجرة ليمون أصفر في باحتنا ولا شجرة برتقال ولن نستطيع أن نأكل  من برتقالات بيتنا. وما الذي ينبت في حوشنا يا أبي؟ تنبتُ بعض الزّهور البرتقاليّة تشبه البرتقال، وبعض النباتات الليمونيّة تشبه اللّيمون وأيضا نباتات الرّيحان التي تفوح من تنك السّمن والحلاوة التي تزرعها أمّك بمشورة من أخيها مدني. حوشنا كان سابقا يضمّ مساحة مربّعة بشارعين، بعد ذلك باع عمّك توفيق حصّته وذهب إلى الكويت لعدّة أشهر ثمّ عاد، متأفّفا من حرّ الكويت. كانت ربّما نسور وشحارير وبلابل ستأتي لزيارة أشجارنا، الآن فقط يأتي بعض النّحل يزور الورود الحريريّة والمخمليّة والبرتقاليّة واللّيمونيّة وأيضا تأتي القطط من كلّ بيوت الجيران، القطط بعيونها العسليّة والبنيّة والصفراء والحمراء ويأتي قطّ أسود داكن بفرو ناعم، إنّه قطّ بيت شويش. يذهب أخي لكي يمسكه ويقبّل فمه ويدلّله، لكن القطّ غير أنيس ويحاول أن يخرمش أخي ويغضب. قطّي الأبيض بقي قطّي لمدّة سنتين وكان ينام تحت لحافي، يشمّ أفراد العائلة واحدا واحدا، كان يعرف رائحتي ويأتي، يدخل إلى سريري وينام. كنت أقلّد أخي وأقبّل فمه وأمسّد فروه الأبيض. كان يذهب إلى بيوت الجيرانِ ويغيب لعدّة أيّام أحيانا، لكنّه كان يعود. نحن نحتاج أن ننتقل إلى السّاحل. حيث السّفن، أقول في نفسي وركب الفتياتِ والماء الأزرق!. لكن أريد الأشجار في حوشنا ويمنعني أبي أن أغرس الأشجار. تذهب جذورها بعيدا في الأرض وتلتقي بالقشّ الأسود البني الذي تركناه في الحوش حين هدمنا غرفنا القديمة وبنينا بيتا جديدا صغيرا بعد أن باع عمّك حصّته وذهب يعيش في بيوت الأجرةِ.  تلتقي بالتراب المتفحّم والتنك والأخشاب وأكياس النايلون، تلتقي بها وتعلق هناك ولا غذاء منها للجذور، فتيبس الجذور والشّجرة لا تعطي ثمارا ولا تكبر. لكن أزهار وداد وصفيّة تكبرُ وتحمرّ وريحانات أمّي في الشبابيك، تلمسها برقّة بيديها، فينتشر الرّيحان إلى داخل الغرفة وخارجها وتحرص عليها وتحرسها. ربّما يأتي مدني في غفلة منّي ويقلعها من الجذور. خالكم يحسد من ريحاناتي وهو يرى كيف تنبسط وتترنّح وتخضرّ وتفوح أكثر من ريحاناته ولو أّنني أخذت الشّتلة من ريحاناته. هل تعتقدين أمّي أنّ مدني هو الذي رشّ المازوت على جذور شجيرة اللّوز التي زرعتُها وأورقت ببياض وأحمر خمريّ وأخضر فاتح؟. هل هو الذي تملّكه الحسد من شجيرة اللّوز التي زرعتها أمام شبّاك غرفتي!، كم هذا البيت لايطاق بدون شجرة. هناك ورود وزهور وهناك ريحاناتي الريّانة التي تعبق في الصّيف وفي الشّتاء أهتمّ بها وأحرسها بعيوني الضعيفةِ حين يأتي مدني إلينا. زرعتُ في باحتنا عجو النخل والنّخل نما وصار نبتة خضراء، بقامة من عدّة سنتيمترات، أتيت بأباريق الماء وسقيته، لكنّه يبس بعد يوم أو يومين. في تلك السّنين، في الشتاء ولم تكن هناك بيوت تمتدّ على ضفّة نهر الخنزير. كانت الأشجار تحيط بالنّهر والأودية تتجمّد والأشجار ينساب المطرُعليها، فيتجمّد مباشرة وأنواع من أشجار السّرو والصنوبر والعنب والتّوت والجوز تغطّي ضفاف نهر الخنزير وغزالة أو وعل يلتفت على الصقيع. غابات ويغطّيها الثّلج على ضفاف نهر الخنزير ويذهب الأولاد يتزحلقون ونحن نتأمّل في الزّمزليق الشّفاف، ينساب من الأشجار والزّوايا ويكون أشكاله البهيّة وأقواسا تنكسر وتميل. ننتظرُ في الغرفةِ، الثّلج ينهار والعصافير هنا في عامودا لاتعرف الثّلج ولم تحسب أنّ الثّلج سيهطل ويصبح الجوّ هكذا باردا وإلى أي وكر ستلتجيء العصافير بأجنحتها البنيّة ومناقيرها ومخالبها الغامقة والثّلج فاجأها؟. العصافير لا تعرف الثّلج، تعرف الشتاء البارد ويقف أبي بثوبه الأبيض في الغرفة وننظرُ من فتحة نافذة البابِ إلى الحوش والصندوق الصغير الذي وضعنا فيه بعض الخبز المبلّل بالماء وهو موصول بخيط في يدنا، تأتي العصافير وتدخل الصندوق، تنقر الخبز، إنّها تبحث على الأرجح عن مكان دافيء، فنسحب الخيط. خمسة عصافير بسحبة الخيط الأولى، عصفوران بشدّ الخيط وينغلق الصندوق على العصافير. يذبحها أبي وثمّ أنتف ريشها. لا تكبر الأشجار في حوشنا. حين كان أخوك الذي يقبّل أفواه القطط صغيرا كان يملك جملا صغيرا. والدك كان قد اشترى له جملا، لكنّنا بعنا الجمل بعدئذ. كان الجمل يكبر بسرعة كبيرة ويطول ويكبر حجمه، قمنا ببيعه قبل أن يصبح هكذا ضخم الحجم ولا يمكن بعد اخراجه من باب الحوش. هذا قبل أنْ تولد، قمنا ببيع الجمل وبدأنا بتربية الأرانب، الإناث تلد وتجلب العشرات من الأرانب الصغيرة. كان لها كوخ كبير في وسط الحوش. كانت الإناث تلد في صندوق والدك التنكيّ الكبير، تلد أنثى الأرنب فيمتلىء الصّندوق بالأرانب. كان خالك مدني يملك أيضا ذئبا، يريد أن يقطع قليلا من فرجه، حيث فرج الذّئبة يجلب الفرج والخير للذي يعلّقه بنفسه. لكن الذّئب بدأ يدور ويدور حول سلسلته المربوطة بقدم التّخت ولم يجرؤ خالك أن يذبح الذّئب. كان الذّئب يقول لخالك مدني:
"يا مدني، يا مدني،
دخلك دخيلك مدني."
توقّفنا عن تربية الأرانب، كانت تحفر أساسات البيوت واشتكى الجيران أنّ منازلهم ستتهدّم حيث رأوا أرانبنا في باحاتهم تركض وتجري في الليل وأحيانا في النّهار، حسبوها في البداية قططا واكتشفوا بعدها أنّها قد حفرت عميقا وتتجوّل في كامل الحيّ.
بيتنا كان يمتدّ على شارعين كاملين من الجهة الشمالية والشرقيّة. ولم يكن الصّيف هكذا حارّا في باحتنا الواسعة. الرّيحان يغلب الحرارة ويفوح ويصنع منه شاي الرّيحان.
الذئب أو الذئبة تلك التي كانت تتكلّم مع خالك مدني كانت ذات عيون مكحّلة وفوق ظهرها بقعة برتقاليّة، لم تكن من قطيع ذئاب دياربكر بل من قرية رفرفا حيث يعيش خال أمّك حجّي محمود ويربّي قطعان الأغنام ويعطينا كلّ عام زكاته من الجبن الأبيض الصحيّ النّاصع. في فجر أحد الأيّام وفي موضع معيّن وجد رضيع ذئبة فأخذه وربّاه بنفسه من حليب الأغنام ثمّ أهداه لخالك مدني وخالك مدني كان مقتنعا أنّ فرج الذّئبة يجلب الخير والبركة حسب المقولة الكورديّة الشائعة. لكنّه أطلق الذّئبة ذات يوم وتلك الأصوات أيضا التي كانت تترجّاه وتغنّي له في مدرسة التّحرير اختفت كليّا. ولو أنّ عمّنا الشيخ محيي الدّين من عامودا بالقربِ من الملعب له رؤيته المغايرة فيما يخصّ موضوع وسبب اختفاء الجان والطقطوقة التي كان يردّدها جنّ المدرسة. يقول لزوجة عمّك الشيخ عبدالباقي أنّه أعطى لابن أخيه مدني بعضا من شعرِ عانته الذي أصبح أبيض كالثّلج وأكثر وشعر عانته أيضا مبارك كمثل فرج الذئبة وهو دواء روحاني يجلب الحظّ ويشفي من الأوهام ومن التصوّرات وعلّقه خالنا مدني واضعا إيّاه في خرقة خضراء لامعة فوق تلك السجادة ناحية القبلة. ومنذ ذلك اليوم كفّ خالنا أن يسمع الأصوات وشاع أمر شعر عانة عمّنا الشيخ محيي الدّين فجاء النّاس من مختلف الأصقاع حشودا حشودا طالبين للبركة منها. عمّنا الشيخ محيي الدّين يصف لزوجة خالك نورا ولزوجة عمّك سعدية ولأمّك بدريّة شعر عانته دواء ضدّ وجع المفاصل والروماتيزم، شفاء للعيون الكليلة والحفاظ على العمر والشباب. يقول لهنّ أيضا:
- أتعرفن! إنّني لن أموت إلا بعد أن أكون قد دفنتكنّ واحدة بعد الأخرى...
أو يقول:
- أنا لن أموت أبدا‍...!!













سوسو


على جدار بيت جارنا مصطفى الغزلاني، في الناّحية الشّماليّة، على جدار البيت المبنيّ بالإسمنت والذي لم يُطلَ بأيّ صبغ، كُتب حرف عين وبعده رُسم قلب وثمّ كتبت كلمة "سوسو". كتبت الحروف بطبشور أحمر داكن اللّون قليلا وحول الرسم غير المتقن للقلب الذي يشبه تفّاحة ولها ورقتان في غُصينها القليلِ خُطّ ما يشبه الدّائرة. الدّائرة رسمُها أيضا غير متقن. حرفُ العين يحبُّ سوسو.
سمعنا أنّ الطّالب الذكيّ الذي كان دائما الأوّل في صفّه والحاصل في آخر العام الدّارسي على أكبر العلامات والحاصل على الامتيازات الأفضل من قبل هيئة المدرسين برئاسة المدير وأمين السر سعيد كولك، سمعنا عنه،عن ذلك الشابّ بقامته الرّقيقة ومشيته السّريعة ووجهه النّحيل وعيونه الذّكيّة.  سمعنا أنّه من عائلة "الجمنتو" التي تقيم على الضفّةالشرقيّة لنهر عامودا، تلك الضفّة التي تنخفض أكثر من الضفّة الأخرى. وبنى بيت الجمنتو بيتهم من البلوك والاسمنت وكانوا هم أوّل عائلة تستخدم الجمنتو فلقّبوا ببيت الجمنتو والجمنتو كان آنذاك أوّل الحضارة القادمة من جهة القامشلي إلىعامودا. تطوّرت القامشلي قبل عامودا ولو أنّ عامودا هي أقدم تاريخيا كما يقول أهل بيت "عوجي" وهم أوّل العاموديّين. بنوا بيتهم حين كانت عامودا فقط بريّة تركض فيها بنات آوى وتصيح. سمعنا عن الشابّ المتفوّق من آل الجمنتو أنّه على علاقة مع أخت سوسو الأكبر منها ويقال عنها أنّها بيضاء مثل النّيون أي مثل مصباح النيون. خفنا على الشابّ الذكيّ الذي حتما سيحصل في هذا العام على العلامات في البكالوريا العلميّة، العلامات التي ستأخذه ليدرس الطبّ والطبّ أبو العلوم وأمّها. سمعنا أنّه واقع في العلاقة والعشقُ يؤدّي إلى الإهمال عندنا في عامودا. سمعنا، فخفنا عليه وذكائه الذي كان أبيض مثل النّيون؛ حتّى ولو أنّنا لم نكن قد رأينا الشابّ ولم نرَ كيف يمشي، هل سريعا أم بطيئا. ولكنّنا عرفنا اسمه من الأقاويل وعرفنا اسم أخت سوسو. وعرفنا أنّهما في علاقة غرام. لقد أوصل خالص رسائله إلى محبوبته وهي أيضا تتجاوب. تأتي سوسو مع أختها وأمّها وأخيها جانو من حلب. أمّ سوسو ابنة تاجر الأقمشة وأبوها ربّما أيضا تاجر أقمشة من حلب. لماذا تزوّج الحلبيّ من مدينة حلب أمّ سوسو من عامودا؟ لانعرف جواب هذا السؤال ولا نسأل عنه. تأتي سوسو من بيت جدّها يوميا إلى حارتنا وفي الأصحّ، بيت جدّها يقع في حارتنا. ونحن علينا أن نتعلّم العربيّة العاميّة، أقصد علينا نحن الأولاد أنْ نتعلّم بعض الجمل الدّارجة البسيطة بالعاميّة ولكننا لانعرف هذه الجمل البسيطة الدّارجة التي يتقنها الأولاد الأكبر منّا قليلا، الذين يذهبون إلى المدرسة. نحن الأولاد الذين فقط نستطيع أن نراقب الأشياء ونسمع الأشياء، ملابسنا في أغلب الأحيان هي ملابس اخوتنا الأكبر منّا وهي مهترئة في العديد من المواضع أو هي كاملة بدون نقص وعيب لكن فقط في الظّاهر. في الحقيقة سحاب البنطلون لايمكن إغلاقه أو هناك ثقوب في الجيوب وأيضا الخصر واسع والقشاط يكوّمه على بعضه البعضِ بتعنّف.
سمعنا أنّ خالص من مدرسة التّحرير التّي يسكنها الجنّ في اللّيل ويغنّون. أرواح تخرجُ من كروم الملاّ حسن ومن أشجار لوز بيت وطحيّا. سمعنا أنّ خالص ينوي أنْ يدرس الطبّ في إحدى جامعات سوريّة، في دمشق مثلا وأنّ ذهنه مثل سيف باتر ذكاءً وأنّه يستطيع أن يكتب رسائل عاطفيّة غراميّة تليّن الصّخر وقد كتب رسائله تلك وأعطاها لبعض البريد من النّاس والأصدقاء وهم أوصلوها إلى أخت سوسو التي ولدت وكبرت في مدينة حلب وهي تتكلّم العربيّة العاميّة ولا تعرف الكورمانجيّة التي نتكلّم بها نحن الأولاد الذين نسمع بالأشياء ونرى الأشياء ونستطيع فقط أنْ نقرأ حرف العين ونرى القلب الأحمر المرسوم بالطباشير الأحمر على جدار بيت الغزلاني. ونخاف ونعرف أنّ خالص قد كتب رسائل غرامه بلغة قويّة، عربيّة فصحى ذات لهجة أدبيّة، عربيّة فصيحة أقوى من العاميّة الحلبيّة التي تتكلّم بها سوسو وأختها. وأنا – هل رأيتُ سوسو؟ وأنا – هل رأيت أخت سوسو؟  لم أرَ أخت سوسو، كان يُقال أنّها من بنات الدّاخل، هذه العبارة التي تعني عندنا في عامودا، بنات دمشق وحلب وبنات السلميّة وصفاتهنّ هو البياض وأيضا حريّة إقامة علاقة مع الشّباب من جنس الذّكور. لكننا كنّا نخاف على خالص أن ينشغل بحبّ أخت سوسو ولا يستطيع أن يحصل على أكبر العلامات ولا يستطيع أنْ يدرس الطبّ، خاصّة حين تناهى إلى عقولنا الساذجة أنّ خالص يلتقي بالقرب من وادي "دودا" بأخت سوسو. يلتقي بأخت سوسو التي تتكلّم العاميّة وانتشر خبر اللّقاء أو اللّقاءات في جميع أحياء مدينة عامودا ونحن أيضا سمعنا عن هذه اللّقاءات وماذا يحدثُ في اللّقاءات؟ حين يلتقي خالص، الشابّ المتفوّق العاشق بمحبوبته التي أمّها كورمانجة، ابنة تاجر أقمشة من عامودا وأختها سوسو. مؤكّد أنّهما يتبادلان القبل في ظلّ كروم أعناب ملاّ حسن. مؤكّد أنّ خالص لا يكتفي بالقبلات ويمدّ يديه إلى أثداء العاميّة التّي هي بيضاء مثل النّيون ولو أنّ أعمدة كهرباء عامودا ليس لها مصابيح نيون. مصابيح ضعيفة تناسب الاهمال الذي تعامل به بلديّة عامودا مدينة عامودا وأهلها. لكنّ أخت سوسو تنير قلبنا وذهننا وهي تعلّمت أنْ ترضي بعضا مما يريده قلبها مع خالص، الشابّ العامودي الكورمانجيّ من بيت جمنتو ولا تعلم أخت سوسو أنّ ولدا ربّما، ولدا ذا بنطلون بسحاب معطّل يسمع ويرى.
لكن اسم خالص لا يبدأ بحرف العين وخالص لا يحتاج أنْ يرسم قلبه بعد الحرف الأوّل من اسمه ثمّ يكتب سوسو ولماذا سيكتب سوسو وهو يحبّ أخت سوسو ولماذا سيخطّ بالطباشير الأحمر هذا كلّه على الجدار الإسمنتي بالبلوك لبيت جارنا مصطفى الغزلاني!؟
تأتي سوسو إلى شارعنا الذي يبعد مسافة شارعين من بيت جدّها تاجرالأقمشة على ضفّة نهر عامودا وجدّها له دكّان في سوق "فاتورة" بشارعه الضيّق ودكّان آل الصرّاف هو الدكّان الأوّل في سوق فاتورة الذي تختصّ دكاكينه ببيع الأقمشة وأيضا فيه دكاكين مسيحيّين يبيعون صنوف الحمام ويصلّحون الأحذية ولهم رؤوس صلعاء تشبه المطارق المحدّبة التي يدقّون بها المسامير بإتقان جدّ متقن في باطن الأحذية التي تُصلَّح. سوسو لها بشرة سمراء وتلبس قمصان الأكمام النصفيّة أو "النصكم" في العاميّة الكورمانجيّة والعربيّة. نرى نحن الأولاد سمرة بشرة ذراعيها وأيضا تلبس سوسو بناطيل الشورت فنرى نحن الأولاد ببناطيلنا بجيوبها المثقوبة وبسحاباتها المعطلّة المفتوحة دائما، نرى سيقان سوسو الرشيقة السمراء وفيها ينبض الدّم ونرى فخذي سوسو على بسكليت عصمتو. تجلس سوسو على الكرسي الأمامي بشورتها وسمرة فخذيها الرشيقين وهي غريبة لا تعرف الكورمانجيّة ونحن الأولاد لا نعرف العاميّة الحلبيّة، نفهمها قليلا ونعرفها قليلا، بعض الجمل تعلّمناها بصعوبة ولكنّنا نخجل أن نتفوّه بها. نعرف هذه الجمل ونريد أنْ نقولها لسوسو حين تأتي تتعلّم قيّادة الدرّاجة على بسكليت جارنا الأكبر منّا عصمتو. الدرّاجة لم نكن قد شاهدنا قبلها من مثيلها. دواليب ثخينة، أغلظ من دواليب البيجو وأخفض منها والدرّاجة حمراء داكنة بلون الطباشير التي كُتب بها حرف العين ورُسم القلب وكُتب اسم سوسو. نحن الأولاد نركض وراء الدّراجة وعصمتو يمسك بسوسو ويعطيها بعض الإرشادات العاميّة، نفهم الإرشادات ونركض وراء سوسو ونردّد الجمل العاميّة بيننا وبين أنفسنا. ربّما حدثت فرصة ما وقلنا لسوسو جملنا الركيكة ونظرت سوسو إلينا وقالت لنا شكرا بلسانها العاميّ الحلبيّ المتدلّع. ربّما سقطت سوسو فنستطيع أن نمدّ بأيدينا إلى يديها ونساعدها أن تقوم وربّما جرحت ساقها أو يدها فنتلهفّ لتنظيف الجرح وربّما احضار الدّواء الأحمر من بيت شويش القريب أو ربّما يتعب عصمتو في هذه الظهيرة فنتقوم نحن بدلا عنه في مساعدة سوسو في تعلّم الدرّاجة ولو أنّنا أيضا لا نعرف قيادة أيّة درّاجة ولكن سنحاول على الأقل بهذه الطريقة أنْ نقترب من رائحة هذا الجسد الأسمر المنعش الطريّ وربّما نختلس نظرة إلى ثديها النابض البضّ المختلج الذي يظهرُ قليل منه في أثناء انحنائها على الدركسيون!!؟.
تأتي عائلة سوسو كلّ صيف لتمضي الإجازة في عامودا. يقع خالص في حبّ أخت سوسو ولا أعرف لماذا نحن الأولاد بالمخاط على أنوفنا وبثقوبنا وسحابات بناطيلنا التي لا يمكننا أن نغلقها. نحن الأولاد بملابس البالة المستعملة والتي تتصدّق بها علينا المدرسة. لا أعرف ما دخلنا بقصّة خالص وأخت سوسو وتلك الإشاعات التي انتقلت بين الصّغار والكبار وافتضح أمرُ ذلك الحبّ ولم يبقَ في عامودا إلا مبحث اللقاءات الغراميّة بين الشابّ المتفوّق وأخت سوسو التي نسيتُ اسمها بعدئذ وكوّنت في ذهني صورة عنها وأنّها بيضاء ورشيقة وأحيانا كنت أرى في خيالي كيف يقترب العاشقان من بعضهما في أفناء الكروم وأشجار بيت وطحيّا في اللّيل الدّاكن وأرواحه وجنّه ولماذا تفشّى حبّهما في كلّ أحياء عامودا الترابيّة ولماذا بدأ النّاس أمام الأبواب في المساء في التحدّث عن هذا الموضوع وهم  يقشرّون بذور الجبس ويأكلونها أو يصنعون مربّى القرع أو يصبّون عصارة البندورة في الطناجر الممتدّة والصحون الفارهة على أسطح البيوت. لا أعرف لِمَ بدأ النّاس يتكلّمون عن فضيحة تتعلّق بهذه العائلة وسمعة هذه العائلة التي تأتي من حلب في الأصياف إلى بيت الجدّ واسم خالص أصبح أيضا اسما ذا مغزى ومعنى خاصّ واهتمام من لا اهتمام له. بالنسبة لنا نحن الأولاد بالقرب من بيت شويش كان يهمنّا ألاّ تتعلّم سوسو قيادة الدرّاجة بسرعة. كنّا نودّ أن نطارد سوسو والبسكليت وعصمتو في خلال أيّام الصّيف كلّها والجمل تلك العاميّة لم نستطع أبدا أن نقولها. سوسو كانت تعني لنا الشوكولاتا وتعني السيقان السمراء وسكّرا لم نذقه وكنّا نعرف أيضا أنّها كما هي سمراء وحلوة الّدم فهي ستحتاج إلى مساعدتنا ذات يوم، حينما تسقط من الدراجة فنقترب منها ونشمّها أيضا إن سنحت الفرصة ونحملق فيها لاحسين بعيوننا شوكولاتا شفتيها وخدّها.
وسمعنا بعد عدّة أصياف أنّ حسين أخو النجّار الأعور سيتزوّج أخت سوسو. لم يكن حسين في يوم من الأيّام عاشقا لأخت سوسو ولم يكتب حسين أيّة رسالة غراميّة بالعربيّة الفصحى لأخت سوسو وكذلك لم يتفوّق في يوم من الأيّام ويصبح الأوّل في مدرسة التّحرير ولم يكن لاسمه أيّ معنى وإيحاء أو دلالة ولم يكن له مستقبل أن يدرس الطبّ في أيّة جامعة من جامعاتنا. أين خالص من بيت جمنتو الذين أتوا بحضارة الإسمنت إلى مدينة عامودا ووضعت عائلته أساس مدينتا التي هي أقدم من مدينة القامشلي، عائلة خالص التي جميع أبنائها من الأذكياء في كلّ الفروع؟. لماذا لم يتزوّج الذّكاء في الموادّ العلميّة والأدبية والطبيعيّة على السّواء من الفتاة التي مثل النّيون التي كانت تأتي مع عائلتها إلى حارتنا وكنّا نطارد عصمتو وسوسو على البسكليت وسوسو بدأت تعتاد علينا ومَن رسم قلبا غير متقن على حائط بيت الغزلاني وثمّ كتب سوسو؟
في حفلة خطبة حسين وأخت سوسو انحنى حسين وقبّل يد أخت سوسو المدنيّة من مدينة حلب فاشتعلت فضيحة لا بداية ولا نهاية لها:
- كيف يتّضع رجلٌ ويقبّل يد فتاة!؟ هذا ما لم نسمع به ولا نقبله في مدينة عامودا ونعرف مَن هي أخت سوسو ومن هي عائلة أخت سوسو. وأصلا قصّتها مع خالص معروفة وبين النّاس كالعلكة والزّبيب والقضامة. يقول أهالي عامودا.
نحن الأولاد الذين نسمع ونرى ونتعلّم العاميّة للتكلّم مع سوسو نمسح مخاطنا ونخيط جيوبنا المثقوبة ونذهب إلى سوق الفاتورة نشتري من دكّان ملا أوسمان سحابا جديدا نخيطه إلى بناطيلنا ونغلقه وثمّ نركض ونلهث ونقرأ الحروف:
- عصمتو يحبّ سوسو.













 
مجلّة "قلق"

" لاحالة للشّعر إلاّ بالشّعر"
عماد الحسن

إلى غرفتي في عامودا يأتي ابراهيم فرمان حسّو فيجد قصيدة لعماد الحسن تركها عماد قبل أن يذهب لخدمة العلم. القصيدة تتحدّث في إحدى مقاطعها عن الوجبة التي يأكلها التي هي خالية من اللّحم ومن الممكن أن تحوي قليلا من البيض حيث تقول لي أمّه بعد ذلك: نحن لا نأكل اللّحم، نربّي الدجاج والديكة ويأتي سليم بركات يضعها في رواياته ويبيعها للأوربيّين غاليا أو إذا كنت عاشقا سنعطيك بعض البيوض، تقعد عليها لعدّة شهور في عزلتك في عامودا التي أعرفها وأنت من عائلتنا فتشفى من العشق الذي في الأصل لا أريد لك أن تشفى منه وإلاّ ستكفّ عن زيارة القامشلي بعد سنوات العزلة ولن تتعرّف على الشاعرين منير دبّاغ وابراهيم فرمان حسّو. منير دبّاغ هو ديك قصيدة النثر في القامشلي وابراهيم فرمان حسّو هوالسرياليّة بصيغة الكورد ودجاجاتهم. كيف سأقعد على بيض الدّجاج يا أمّ عماد الحسن! سأصدر مع ابراهيم حسّو مجلّة قلق قريبا. هل قلت أنك ستقعد على بيض الدّجاج!؟ لا أتذكّر هذا، إنّما قلت، ينبغي أن تشتري قفصا وتقفل على نفسك فيه في عامودا، فتستطيع القضبان أن تتكفّل في أن تكتب عصارة الحبّ الفاشل عندك وعند ولدي وشاعري عماد الحسن. يا أمّ عماد الحسن، أريد أن أترك قلبي المثقل من زيارات القامشلي بالأثواب البيضاء والصّفراء لأمينة عندكم في بريفا. ألا تستطيعون نشره على السلّم كي ينقّط يرقانه ويجري بعدئذ ألمه في السّهل في الربيع. بلى، في العام الماضي فعلت الأمر نفسه بقلب ابني الموسيقي جبّار، يعزف الآن في الأعراس فترقص الفتيات في أمّ الرّبيع وموسيسانا وبعض الجداء والحرمل يميل على القبور.
عماد الشّعر! اكتب كي يزورك الطائرُ البنيّ الذي ليس له أقفاص ولا أشجار ولاطيور ولاجناح غامق أو فاتح ويرتمي بعباراته فوق صفحات مجّلة قلق التي سنصدرها اليوم، يكتب ابراهيم فرمان حسّو. وأنا أهرول إلى غرفة أبي أحضر الدكتيلو من ماركة أولمبيا وأدقّ الحروف الأولى من المجلّة:
مجلّة قلق، مجلّة شهريّة أو سنويّة تصدر كلّ خمس سنوات، لا تهتمّ بأيّ شيء. السعر 500 ليرة سوريّة. رئيس التّحرير- ابراهيم حسّو، سكرتير التّحرير: عبدالرحمن عفيف( شاعر كردي، يقيم في ألمانيا، مدينة برلين). آنذاك لم نكن كلانا نعرف أنّني سأقيم في مدينة هانوفر بعد عدّة سنوات وتكهّناتنا وقعت على مدينة برلين حيث لها بريقٌ اسميٌّ أكبر من مدينة هانوفر. أقصد علينا أن نبدّل الكثير من التكهّنات التي أجريناها في مجلّة قلق حيث بيع العدد الأوّل بألف ليرة سوريّة بدل السّعر المعروف وابراهيم حسّو دخل السّجن لسنتين كاملتين بسبب من إصدارها، على الخلاف من توقّعاته وتوقّعاتي أيضا حيث كنّا نتوقّع له فقط يومين من السّجن بعد هروبي من سوريّة بسبب هذه المجلّة المقلقة للشّارع والنّاس.
أزور القامشلي لألتقي بصديقي الشّاعر ابراهيم حسّو ولكي أخرج من العزلة التي فرضتُها على نفسي في مدينة عامودا.  في القامشلي تصيبني صدمة حضاريّة من الضّوء المشعّ والشّوارع النظيفة في مركز المدينة. أرى أفواج النّاس في السّوق وأيضا الفتيات يتمشّين بفساتينهنّ وبناطيل الجينز. في عامودا السّوق مقتصر على الرّجال والحمّالين والأحصنة والعربات، هذا حين كانت هناك عرصة. آه كم ظلمتُ نفسي في عامودا ودفعتها إلى هذه العزلة الفظيعة لشهور ولم أنجز إلاّ قصائد قليلة ولن ينشرها أحد كمثل سابقاتها.
عبارة ابراهيم فرمان حسّو يخطّها فأراها على ورقة بعد أن قرأ قصيدة عماد الحسن ودعوته لي لحضور أمسيته في المركز الثّقافي أو في إحدى الأقبيّة السريّة في القامشلي التي يسمّيها بباريس الشّرق القديم. أقصد عبارة الطّائر البنيّ وبعدئذ سألت زوّار غرفتي التي شهدت الاصدار الأوّل لمجلّة قلق: مَن يعرف ما المقصور بالطّائر البنيّ الذي ليس له أقفاص وطيور وأصدقاء ولا جناح؟. كان ابراهيم حسّو يريد أن يصف ذلك الطّائر بمواقدهِ الأوكسجينيّة الذي أخذته إلى تحت سرير أمينة حين تمارس الجنس مع زوجها، يستمع إلى التأوّهات ويبكي لتخرج أمينة وتحمل الطّائر ذا الريش البارق في الحوش وتأخذه إلى أشجاره وجناحه وأصدقائه وربّما مصائده وقالت السيّدة الألمانيّة التي كنت في سريرها أتلذّذ بحمرة وجهها وفخذيها: هذه أنا المرسومة على غلاف" نجوم مؤلمة تحت رأسي" وليست أمينة. ونظرت إلى المرأة التي رسمها عبدلكي وهي تحمل الطير الغرابي وإلى جسد المرأة في سريري. فعلا، كيف عرفت أيّها الملوّن "هانولورا"!؟ امرأة قادرة أن تحمل الطّيور أمثالي على سفينة قطن جسدها وأنا أضع منقاري السفلي فيها وأحرّك ببطء وبسرعة. كيف، وأمينة لا تستطيع أن تحمل الطيور وقطن جسدها يحترق أيضا مع طيوره في صفحات مجلّة "سورمي" بدلا من مجلّة قلق. والخطأ الكبيرالثّاني الذي اقترفه ابراهيم حسّو الذي سمّا مجلّته بمجلّة سورمي التي تعني القلق باللغة الآشوريّة.  
كانت أمينة قد تزوّجت وصديقنا شاعر الرّيف عماد الحسن يؤدّي خدمة الجيش والآخرون من شعراء عامودا يناقشون موضوع القصيدة العاموديّة والأفقيّة. القصيدة الأفقيّة في القامشلي والعاموديّة والتفعيليّة في مدينة عامودا حيث كلمة عاموديّة تعني كلمة الشّعر باللغة الكورمانجيّة وباللهجة العاموديّة التي ستخترعها وتؤسّس لها مجلة قلق. أزور مدينة القامشلي أحيانا، عاصمة البلاد الكورديّة في جمهوريّة سوريّة، خاصّة حين أعزل نفسي عن المجتمع لعدّة شهور وأفكّر فقط في أمينة والتّفكير هذا يبدأ يكوّن نفسه بذاته، وتخرج القصائد من باطن الأعشاب التي أراها أو تخرج القصائد من الرّيح تضرب كيسا ما. كان عليّ أن أزورالقامشلي كثيرا بدل هذه المرّات النادرة ولكنّني أراجع نفسي. ينبغي لنا أن نمتلك القليل من الأحلام لكي نستطيع أن نستمتع بها وأيضا: أنا هو الوحيد الذي يعرف القامشلي لأنّني أعزل نفسي في الشّهور الطويلة وآتي لأتفجأ بالنّاس، أرى حركة وأرى الضّوء بدل ظلام عامودا. نذهب أنا وابراهيم حسّو إلى بيت منير دبّاغ. أنا أعرف أن بيت أمينة هناك وأنّ أمينة تلبس فستانا من الأبيض أو الأصفر وتخرج إلى السّطح تنظر إلى محطّة المحروقات والرّيح لاتلعب بشعرها. فجاّة نمشي ثلاثتنا بعد أنْ انضمّ إلينا منير دبّاغ في شارع الكورنيش، أرى من بعيد عدّة فتيات بفساتين طويلة بألوان صادمة من الأبيض والأخضر والأحمر والأصفر. ألمح أمينة بينهنّ. لكن، إنّها ليست أمينة. أمينة فوق السّطح بالقميص الأبيض وربّما تصنع الشّاي وتفكّر بالحنفيّة في الصفّ العاشر في المعسكر، أقصد أقكّرأنّها تفكّر بالحنفيّة التي تجري بالقربِ من مكتب المدير في الصفّ العاشر في الصّيف. الماء الذي كتبته في جريدة نضال الفلاّحين. لا، هذا الفستان الأصفر ليس أمينة، أمينة لها فستان وقميص آخر.
نركب أنا وابراهيم حسّو باص البولمان من مدينة القامشلي متوجّهين إلى دمشق، نحمل في حقائبنا مئة عدد من مجلّة قلق التي غيّرنا اسمها إلى "قلق القلق" بعدئذ، أي بعد أن تمّ حظر الاسم الأوّل فبدّلناه وصار سورمي سورمي أي بالآشوريّة قلق القلق. نذهب إلى الوحدة العسكريّة التي يخدم فيها الشّاعر عماد الحسن في مدينة درعا. في جيبي الأسئلة التي أعددناها لإجراء الحوار معه. حين نصل، لا يكون عماد في الثكنة بل يقول الجند الآخرون أنّه في دبّابته يتجوّل في الحدود. ويشير إلى دبّابة بعيدة. نمضي أنا وابراهيم إلى تلك الجهة. نصعد إلى الدبّابة وفوق سطحها نبدأ بطرح الأسئلة:
- كيف الشّعر في الجيش والدبّابة؟
- الوقت قليل، لهذا لا أذهب إلى استراحة طعام الظهر، آكل بعض البندورة والخيار والأفكار على ظهر الدبّابة وأكتب بعدئذ شعرا عن سكاكر نوروز وبذلات فتيات معهد المعلّمين في القامشلي وأيضا أحاول الاجابة على الاسئلة الكونيّة.
- نعرف بخصوص وجبتك المفضّلة من البندورة والخيار والأفكار. ألم تصبح لحميّا، تتناول اللّحوم في الجيش والقسوة؟
- أصطاد بعض طيور اليمام والقطا ولكنّني لا آكلها بل أرميها للضباع التي تأتي وتتبوّل على وجوه الجند فيتبعونها عبر الحدود إلى اسرائيل. أرميها للضباع فتنشغل بها ونكسب جنودنا وقوّة جيشنا.
- كيف تنظر إلى حالة الشّعر السوري وأي الشّعراء تقرأ لهم في الدبّابة؟
-الشّعر السوريّ يحتاج أن يتخلّص من الأبطال الزعرانين ويعود إلى بداياته عند حامد بدرخان ورياض الصالح حسين وطه خليل. أقرأ بعض مخطوطات موجة جديدة من شعراء عامودا تتلمذوا على يد عبداللطيف الحسيني في مدرسة المعرّي وهم أيضا غارقون في تقليد قاموس سليم بركات وبورخيس الأعمى. لا حالة للشّعر إلاّ بالشّعر في رأيي.
نعطي عماد الحسن 1000 ليرة سوريّة مكافأة الحوار وهو ثمن العدد الأوّل من مجلة قلق التي كانت لاتزال تسمّى قلق وليس قلق القلق. في العدد الجديد بالإضافة إلى الحوار مع الشّاعر عماد الحسن تضمّ المجلّة حوارا حيّا عن الشّعر الكورديّ المكتوب بالكورديّة مع جكرخوين الذي زار عامودا وأمضى ليلته في بيت الشّاعر عبدالمقصد الحسيني وهناك نداء من رئيس التّحرير ليرسل له أحد الشّعراء المعروفين بعلاقاته الواسعة مع النساء والشّاعرات بعض الشّاعرات من القامشلي ليغسلن جواربه ويصنعن القهوة لسكرتير التّحرير الذي صار كثير النّوم في ألمانيا. يغضب هذا الشّاعر المعروف بالنساء والشّاعرات ويقول:
-  أؤكّد لكم، سأضرب رئيس التّحرير وسكرتيره في شوارع عامودا والقامشلي، إن عادا إلى هذه الأشياء في عدد آخر من مجلّة" قلق" أو "قلق القلق" كما سمّيت بعدئذ ودخل من جرّائها رئيس التّحرير بجواربه القذرة لثلاث سنين إلى السجن والسكرتير النائم فرّ إلى بلاد الجرمان.






فراشة نوفاليس

- لقد اشترت سوزانا سيارة زرقاء وباعت الأخرى الحمراء القديمة
- أنت تتحدّث عن زهرة نوفاليس وسوزانا الحقيقيّة مهندسة لم تزل تعمل في هولدرلين شتراسّه وانتقلت من بيتها إلى بيت آخر في حارة" كرونسبيرغ"
- هل لازالت تحتفظ بقصيدة نوفاليس على مسخّن الماء في مطبخها الجديد؟
- لا أعرف هذا.
- مَن أنت يا رجل القمر؟
- أنا مراد.
أسمع في الغابة فراشة تضحك فأركض.
 تضحك سوزانا حين أقول لها المثل عن النساء وغدرهنّ وأترجمه إلى الألمانيّة: أحسنهنّ حيّةٌ. لا تجد سوزانا مشكلة أن تُشبَّه بحيّة هيفاء تبدّل ثوبها المزخرف بين الفصل والفصل ويعجبها الوصف فأمارس الجنس معها ثانية وتطلب منّي أن أبقى حيث أنا، فوقها في فرو الخروف في غرفة الجلوس وعلى الحائط لوحة لشاغال؛ امرأة ورجل والرّجل يرفع رأسه ينظر إلى القمر. تعود سوزانا فاستقبلها بوردة قانية اشتريها من محطّة القطارات  ثمّ نذهب إلى بيتها القريب.
لم أستطع أنْ أسمع الفراشات تضحك حسب قصيدة نوفاليس التي علّقتها سوزانا على مسخّن ماء التدفئة وماء غسل الصّحون والطّناجر في مطبخها.
وصلنا إلى وسط اللابيرنت وفي اليوم الذي ذهبنا فيه إلى " آلت فارم بوشن" قلت لها كم أشعر بالحسد من يوم الأحد هذا ومن جماله وأشعر بحزن كبير أنّ علاقتنا لن تستطيع أن ترتفع في المستقبل إلى ذروة هذا الجمال لهذا الأحد. كانت سوزانا لا تريد أن أقول هذا وتقول بعد خمسة أشهر من العلاقة، أنّنا لا زلنا في البداية.
أسمع في الغابة فراشة تضحك فأركض وراءها عبر غابة" آيلن ريده" في المنعطف المؤدي إلى الشارع الاسفلتي ألتقي بسوزانا على درّاجتها.
قرأت قصيدة نوفاليس تلك بخطّ سوزانا الجميل على المسخّن وفكّرت في اسم هذا الشّاعر، حيث كانت هذه هي المرّة الأولى التي أسمع بهذا الاسم وأقرأ قصيدة له بالألمانيّة. الفراشات التّي تضحك وبيت سوزانا القريب من غابة " آيلن ريده"  والبيت المقابل لمنزلها هو عيادة جرّاح فلسطينيّ، أجرى لي عمليّة بسيطة بعد أن كانت علاقتي مع سوزانا قد انتهت بغير أن تطول حتّى ولو لمدّة سنة كاملة.
بقيت قصيدة نوفاليس معلّقة هناك في المطبخ طوال كلّ الأشهر والأيّام والليالي التي أمضيتها في بيت سوزانا. و سوزانا كانت تذهب في الصباح الباكر إلى العمل أو إلى إحدى عطلها التي تمضيها في اجتماعات للتعلّم والاستجمام في أماكن بعيدة عن هانوفر، أماكن معروفة بأرضها وهوائها ومائها النقيّ. تتعلّم من مهندسين ذوي خبرة طويلة وتجربة عميقة وتترفّه بالعيش في الهواء الطّلق مع صديقات لها ويتغذين جميعا بالفواكه الطبيعيّة والخضروات وبالجبن وأحيانا لحم سمك وتطلق على هذا العلم اسم "غيومنتي".
بعد انتهاء العلاقة التقيت  بصديقي الايراني "كمبيز" وصديقته الألمانيّة السمينة على ضفّة بحيرة" ماش سي"، سألاني عن سوزانا، فقلت: لا أعرف. وأشار كمبيز إلى أضواء تتحرّك من بعيد حول البحيرة ووصف سوزانا بتلك الأضواء وأكملت في قلبي ما لم يكن كمبيز يعرفه، في أذن سوزانا كانت خرزة زهرة زرقاء وتصبغ فقط لي أجفانها بالأزرق وبدل أن نمضي للتجوّل تلتصق بي وندخل السّرير طوال النّهار وفي المرّة الأولى: شعرت بممارسة الجنس مع أفعى هيفاء على صوف خروف في منزلها ذي السقف المرتفع.
- أحقّا فعلت هذا!! اللابيرنت والبحيرة والقمر كلّها كانت من رسم شاغال والرّجل الذي كان ينظر إلى القمر أيضا.
- لكنّ مراد قال لي أنّه هو رجل القمر!
أيضا لم تكن سوزانا دجاجة من الخشب كتلك المرسومة على الكرت الذي أهداها فيليب صديق صديقتها لمناسبة عيد ميلادها: الصّديق أراد أن يسخر من علاقتنا الغراميّة وأنّ سوزانا مثل دجاجة من الخشب ليس لها حقّ الاعتراض والكلام وأنّني أنا أجرّها ورائي بالخيط في يدي وسوزانا أحبّت التشبيه الذي على الصّورة وأحبّت أنْ تصف علاقتنا بوصف صديق صديقتها الفرنسي الذي كان يحسد منّا ويقدّر أنّ علاقتنا ستدوم في أحسن الأحوال فقط- سنتين.
نمشي في غابة" آيلن ريده" في ضوء القمرِ، أغلق عينيّ وتأخذني سوزانا من يدي، نمشي إلى" اللابيرنت". هناك لابيرنت مصنوع بالحجارة في أحد أركان الغابة، ربّما هو مغطّى بالأوراق الآن، لكن سوزانا عنيدة فنجده وأنا أيضا عنيد بعد انتهاء العلاقة مع سوزانا فأحاول عدّة مرّات ولا أجد اللابيرنت كانت سوزانا ستقول: زمن اللابيرنت مضي وانتهى مثلما طلبت منّي أن نأكل معا ذات يوم الفلافل وقدّمتُ لها الكثير من الشّروحات والتبريرات لكي لا آكل الفلافل. نجد اللابيرنت ونمشي في دوائره، دائرة بعد دائرة، في ملتوياته وانعطافاته، انعطافا بعد انعطاف
ونصل المركز- الذي هو زهرة نوفاليس الزّرقاء. تذكّرني سوزانا بلقائنا الأوّل حيث كنت أدفع عربة التّراب الثقيلة بجاكيتي الأصفر حين تعرّفت عليها في مركز عمل بلديّة هانوفر في شارع هولدرلين شتراسّه. لمدّة أكثر من أربعة أشهر كنّا نحفر ونرتّب الحجارة ونبني تلاّ صغيرا بإدارة سوزانا في إحدى المدارس الابتدائيّة وفي الشّهرين الأوّلين، يوما بعد آخر، كانت سوزانا تضحك لي يوميّا وتتكلّم معي يوميّا ومع عمّالها الآخرين، لكن لي بطريقة مختلفة؛ بطريقة فراشات نوفاليس وإلى أنْ أهديتها ذات يوم حلقة الأذن الزّرقاء والبنفسجيّة وعليها الزّهرة ثمّ ذهبنا إلى عيد النوروز في "أوسنابروك"
- لقد اشترت سوزانا سيارة زرقاء وباعت الأخرى الحمراء القديمة
- سوزانا الحقيقيّة مهندسة تعمل في هولدرلين شتراسّه وانتقلت من بيتها إلى بيت آخر في حارة" كرونسبيرغ"
- هل لازالت تحتفظ بقصيدة نوفاليس على مسخّن الماء في مطبخها الجديد؟
- اسأل عبدالحميد، فهو يذهب يسقي أزهارها وأعشابها حين لا تكون في البيت.
في اليوم الأوّل في منزل سوزانا المقابل لعيادة الجرّاح الفلسطيني صنعت لي سوزانا فنجان قهوة وتعرّفت على ابنها. كنت أحاول أنْ أكون طبيعيّا وهادئا وأشرب قهوتي وأدخّن سيكارتي وسوزانا تنظر إليّ وتبتسم باستمرار، نظرتُ أيضا إلى لوحة شاغال لكن ليس طويلا. كانت ستأخذ ابنها إلى المسبح. كنت أقول: زهرة نوفاليس الشّقراء. والرّجل الذي ينظر إلى القمر يغمض عينيه ويرى سوزانا في سيّارتها الحمراء تأتي صباحا إلى باحة المدرسة، يتقدّم منها ويشرح لها بألمانيّة ضعيفة التقدّم الذي تمّ انجازه والخطوات المقبلة. أشعر بانزعاج من رجل القمر المغمض العينين: ألا ترى أنّ حبّ سوزانا لسواك؟
يقول رجل القمرِ كلّما أتت سوزانا: ألا ترى أنّني أغمض عينيّ، فأرى سوزانا في سيّارتها الحمراء؟
أقول لسوزانا:
- في العام الماضي كنت أشعر أنّ الشتاء بطوله وقلّة ضوئه سيقضي عليّ
- ألا تعرف شاي" يوهانّس بير"؟ زهراته زرقاء وحمراء وبنفسجيّة تخزّن الكثير من الطّاقة والشّمس، إنّه موجود في معظم السوبرماركات، اشتره واشرب منه يوميّا عدّة كؤوس. سيعوّضك عن قلّة النّور والشّمس في الشّتاء.
- أتعرفين، حاولت عدّة مرّات أن أجد اللابيرنت الذي انعطفنا في دوائره سويّة فلم أجده وذهبت في أحد الأيّام على الدرّاجة إلى بحيرة" آلت فارم بوشن" فلم أعثر عليها أيضا
- أحقّا فعلت هذا!! اللابيرنت والبحيرة والقمر كلّها كانت من رسم شاغال وآنذاك أخبرتك بذلك.
- لكنّ مراد قال لي أنّه هو رجل القمر.
- إنّه لا زال يحبّني ويغمض عينيه ولا يعرف أنّي أحبّ سواه
- ومَن تحبّين سوزانا
- لوحات شاغال والأشجار ورجلا كتبت أوصافه في دفتر يوميّاتي الذي لم أتركك تقرأه حين طلبت منّي ذلك
- ومَن كنت أنا في حياتك؟
- الفراشة التي تضحك وتضحك إلى أن تتعب فوق لابيرنت" آيلن ريده"
- أنت امرأة عمليّة.
تحبّ سوزانا لوحتها كثيرا حيث هي أيضا كانت تريد رجلا ينظر إلى القمر معها في الغابة فأنظر إلى الرّجل والمرأة والرّجل ينظر إلى القمر وسوزانا تنظر إلى القمر على اللّوحة وفي الخارج. الشخص الذي ينظر إلى القمر ستضحك له الفراشات وسوزانا ستعطيه جسدها وشقرة شعرها بدلا عنّي فأشعر بالغيرة حين أنظر إلى القمر.
مَن كان أوّل حبّ في حياتها؟
عمليّة استخراج القذارة التي ربّما كانت تركتها تلك الحشرة التي تمصّ الدّم والتي كانت قد دخلت إلى جلدي حتّى وسطها الملوّث بالقرب من بحيرة" آلت فارم بوشن"؛ حين ذهبت سوزانا لتسبح وأنا مضيتُ في تدخين سيكارتي والتفرّج على أجساد فتيات يتراكضن حول البحيرة. رجعت سوزانا من السّباحة وقالت: لا أستطيع أكثر، الماء بارد ثمّ تمدّدت بقربي وطلبت منّي أن أدهن جسدها بكريم ضدّ الشّمس.








أبو شْكَفتْ


وهل لبافي شكفت صورة؟
أسأل مقداد، فيتخيّل مقداد خيالا ويقولُ خياله الصميمي لي، تخيّل بافي شكفت في حجرة هؤلاء المتصوّفة أو تخيّل بافي شكفت لو كان حلبيّا؟ ثم يريد منّي أن أقول احتمالات المهن التي كان بافي شكفت سيمارسها لو أنّه ولد في حلب. لا أجاوب مقداد وأنظرُ إلى فتيات جامعات حلب؛ خدود بعضهنّ حمراء جدّا وشفاه بعضهنّ حمراء جدّا وأريد أن أعضّ على تفّاحتهنّ بشدّة فتنزاح عنّي كآبتي ويذهب مرضي ومقداد طبعا لا يوافقني أو بالأحرى لا أقولُ له مسألة عضّي على تفّاحة جامعة حلب وأقول لأحد الرسّامين رغبتي فيضحك منّي:
- آخ من تفّاحة وإجاصة ورمّانة وبندورة فتيات وطالبات جامعة حلب.  
يطلب مني بافي شكفت أن أجلب لأجل مزيج البيطون المزيد من الماء فأعبّىء له إبريقا آخر وأعطيه؛ يوسّع بافي شكفت الحفرة في وسط الرمل ويصبّ المزيد من كيس الجمنتو. يشتغل بمهارة الصنّاع، يقول أبي عن بافي شكفت في حوشنا الذي نريد ترقيعه بأسمنت جديد ويسأله حين أنادي بافي شكفت بهذا الاسم؛ ألا تنزعج من هذا الاسم العجيب يا أبا شكفت!؟ أذهب إلى المطبخ وأشعل مفتاح الرّاديو لكي نستمع إلى شيءٍ ما وبافي شكفت يغرس الرفش في جوانب الرّمل، يرفعه ويصبّه في الوسط ويخلطه بالإسمنت بسرعة ودقّة ومعرفة ذات سنوات وعمل.
أحيانا في المساء يعرف" مقداد" بكآبتي فيظنّها جوعا أو يفسّر أننّي جائع لذلك أشعر بالكابة واليأس؛ يطلب منّي أنْ نذهب إلى دكّان ملاّ سليمان وخالتي مكيّة ونشتري بعض السردينات المغربيّة الحادّة. أفعل ما يطلبه منّي وأحسّ أنّ مقداد يعرف داء حزني في المساء وكآبتي العاموديّة وأنّ الحلّ الذي يقترحه في أكل السّردين حلٌّ شعريّ فيحلّه. نذهب أنا ومقداد إلى دكّان خالتنا مكيّة؛ يشتري مقداد علبتي سردين مغربيّ حادّ ويدخل يديه عميقا في جيب بنطلونه البنيّ ليخرج الثمن، جدّيا في شراء السردينات وشواربه أيضا تغطّي ملامحه. في داخلي أفكّر عن مقداد أنّه بشواربه الكثّة يحاول أن يخفي عن الأنظار أنّه شخصٌ شاعرٌ وأيضا له خجله الذي يحتفظ به لنفسه فقط وطبعا ألاحظ الخجل ولو أنّني لا أقول له، أنت أيضا شخصٌ تخجل مثل أغلبيّة الشّعراء. أحيانا يكون لي أيضا شاربٌ فأشعر أيضا أنا بالجديّة التّي يشعر بها مقداد وأشعر أيضا أنّني أحمل مسؤوليّات كبيرة على ظهري وأيضا أطلق قليلا من اللحية على الذقن فأشبه عزرا باوند على جدار غرفتي، أحاول أيضا أنْ أدبّر لي قميصا يشبه القميص الذي يلبسه ويتكرّم به عليّ صديقي مقداد، قميص أحمر مقلّم ومخطّط ولكن صورة عزرا باوند بالأبيض والأسود فلا أكتشف أنّ القميص يختلف عن قميصه بسهولة ويقف عزرا باوند مستندا إلى شجرة فأذهب إلى بيت مقداد حيث يمتلكون عدّة شجيرات ولكن لا أجد الفرصة لأستند إلى أيّة شجرة من أشجارهم. تأتي القهوة سريعة ويأتي طراد ويحدّثني عن استقالته من وظيفة الاخراج المسرحي وذهابه إلى قبرص ثمّ علاقاته الواسعة بالسائحات البريطانيّات. أشجارُ بيت صديقي مقداد تختلف عن بقيّة الأشجار خاصّة في الصباح حين أقضي ليلتي في بيتهم وأستفيق فيأتي نورٌ مختلفٌ تماما عن نور عامودا ويستلقي على الأوراق؛ أستفيقُ فأجد أنّ حديقة بالنّور المختلف قد استيقظت قبلي وإلى جانبي فناجين القهوة من المساء الفائت وأيضا أعقاب سكائر طراد وربّما كتاب بالانكليزيّة من المكتبة في الجوار. تنزعج أمّ مقداد منه وتسخر من عادته حين يأكل حيث أنّه يقوم بالاضطجاع إلى جانب الطّعام ويأكل بتمهّل وتلذّذ على العكس منّي، حيث أستعجل وأريد الانتهاء من الأكل وفعل شيء أهمّ. صديقي مقداد يعرف أهميّة البطء في الأشياء وكان يمارس نفس هذه العادة في حلب حين كنّا نتجوّل مساء في الشّوارع، نشتري الموز بكيلوات كثيرة بعد انقطاعه عن سوريّة لسنوات. نمشي، يتمهّل مقداد أو يقف أمام واجهات المخازن، يتأمّل طويلا في أحد السكاكين أو أيضا في صور متصوفّي حلب المساكين في باب الفرج بالقرب من هوتيل حجّي كرمو. متصوّفون بألبسة بيضاء وفي عزلة متقشفة ووجوههم مليئة بالمعاناة بدل الرّضى وأجسادهم عليها آثار المكابدة وتعذيب النفس.كان يريد مقداد أن يحصل من دكّان المصور على صورة من الصّور الأكثر إيلاما لمتصوّف خرج من شكل أبناء آدم ولكننّي استعجلت وطلبتُ منه أن نكفّ عن التأمّل في الصّور ونذهب ربّما نلتقي في قاعة المطالعة في جامعة حلب ببافي شكفت أو بأبي شكفت بالعربيّة؛ خاصّة أنّنا كلانا ندرس الأدب العربي في الجامعة وأبو شكفت يدرس الحقوق. لا أريد أن أقول لمقداد أنّني مريض وأنّ السردين لن ينفع إلاّ لساعات لينقشع الألم؛ مع ذلك أظنّ أنّ مقداد يعرف أنّي مريض وبالنسبة لمرضي فأنا راض عنه إن ظلّ في حدود معقولة ولم يصبح كآبة لا تغادر. نذهبُ آخذين السردين معنا إلى صديقنا بافي شكفت الذي يطلّ بيتهم على الملعب الذي كان ملعبا ذات يوم وأصبح الآن مكانا فارغا تتراكض فيه الكلاب في اللّيل وفي أيّام الجمعة يقام فيه سوق الجمعةِ وأكتب ذات يوم عن مرآة ذات إطارٍ من السجاجيد التي كانت أختي وداد تصنعها قبل أنْ تتزوّج، إطار بألوان حادّة، دافئة وصادقة وأيضا أفكّر في المكاحل التي تشبه حوصلة الطّواويس وبالمكحل الذي يكون سيفا ذا مقبض؛ أريد أنْ أكتب قصيدة ذات يومٍ عن هذه المرآة الصّغيرة وأهدي المرآة للفتاة التي يحبّها قلبي بدون ملل تقريبا لسبع سنوات. يقصّ مقداد بعض الحكايات الخرافيّة لبافي شكفت ويخرج من الكيس السردينات ويقول له، هيّا يا بافي شكفت، ها قد جاءك صديقاك اللذان يدرسان معك في جامعة حلب وهاتِ بعض خبز التنوّر أو خبز الفرن المحمّص جيّدا؛ أنا وصديقك الشّيخ أتينا إليك يا بافي شكفت ويبتسم مقداد تحت شواربه وفي نظرته إلى كيس السردينات أيضا ابتسامة؛ ابتسامة طيّبة ومشجّعة لأبي شفكت الصّديق. يذهب بافي شكفت يحضرُ الخبز ويفتح مقداد السردينات وينظر أيضا إليّ بنظرة مشجّعة ويقول فقط:
بافي شكفت.
ثمّ يكمل قائلاً، بافي شكفت لقبٌ رائع لأبي شكفت أليس كذلك؟ مقداد هو مخترع هذا الاسم الفولكلوري المبدع لبافي شكفت والطريقة التي يلفظ بها مقداد هاتين الكلمتين توحي سريعا أنّه هو مخترع وموجد هاتين الكلمتين واللّقب الممتاز لصديقنا طالب الحقوقِ في جامعة حلب وصور الصوفيّين الذين يعذّبون أنفسهم بأن ينقطعوا أن يأكلوا الطعام طوال سنوات ومطاعم حلب تفوح منها روائح البصل والفول الجيّد جدّا في رأيي وذوقي؛ الذي كنت آكله بنهم وهو رخيص ومشبع والفولُ نبات وهذا يهمّني. الصوفيّون ينقطعون أيضا في خلوتهم عن ممارسة الجنس وبالطبع يخلق هذا الأمر نوعا من الاشراقات الصوفيّة؛ حيث تتصعّد الطّاقة وتصبح شعرا ونوعا من الأدعية وترفرف أسماء الله الحسنى بعدئذ على معدة المتصوّفة الحلبيّين ولكن في الجدّ أرى في متصوّفي حلب قوّة وأشعر بمدى قدم هذه المدينة الأثريّة، ابتداء بقباقيب فندق حجّي كرمو في باب الفرج وأيضا الحلبيّون أنظر إليهم فأشعر أنّ هؤلاء النّاس لهم تاريخ قديم خاصّة حين أنظر إلى المدخّنين. لا أعرف ربّما هي روائح النهر المتعفّنة هي التي تبقى على شوارب الحلبيّين وربّما أيضا روائح الصّابون ورائحة الفول المدمّس اللذيذ وأحبّ مدينة حلب أيضا وأكتب فيها الشّعر وأريد أنْ أتجوّل مع مقداد في شوارع حلب؛ ننظرُ إلى المتصوفّين الذين يطعنون بطونهم بالسيوف ويمتنعون عن ممارسة الجنس فيرونه، يرون العليّ القدير بطريقتهم من الجوع والتّعذيب وهذه الصّور. أليس محرّما على الصوفيّ أنْ يلتقط الصّور. يصعد الأذان من أحد الجوامع القريبة من الجامعة وتسرع الفوكسات البيضاء بين الأشرفيّة وسيف الدولة والشيخ مقصود. ينحني بعضهم لشراء ربّما جريدة في مدخل الجامعة ويطلبُ منّي صديقي محمد رفي أن نذهب إلى مقصف الطبّ لنتكلّم عن دجاجات حجّي يحيى في عامودا. نذهب إلى المقصف؛ يذهب محمد رفّي ويشتري أربعة فناجين من القهوة، يحملها ويأتي إليّ وأنا أجلس في آخر المقصف حيث أطلّ على الشّارع وأرى الآتين والذّاهبين. ترتعش يدا محمّد رفّي وأسأله لماذا اشترى أربعة فناجين بدل فنجانين، فيشرح لي، لكي تكفينا ولانقوم من جلستنا المهمّة وحديثنا المهمّ ونذهب نجلب فنجانين إضافيّين بعد ذلك؛ فينقطع الحديث عن الدجاجات ومغامراتها. يطلب مقداد من بافي شكفت بشواربه الضاحكة قليلا أن يجلب أيضا الخسّ المكسود المخلّل لنأكله مع علبتي السّردين. وغاية مقداد الأساسيّة حين يشتري السردين هو أن نأكل السّردين بالخسّ المخلّل في بيت بافي شكفت. بافي شكفت، أقصد هذا اللقب الذي وهبه مقداد لصديقنا لقب جيّد لكنّه جافّ قليلا يذكّر بالكهوفِ وهي جافّة، هكذا أشعر؛ السردين أيضا معلّبات وهي غير طازجة والخسّ أيضا مليء بالملح والخلّ وهو أيضا عتيق كلقب بافي شكفت. أشعر أنّني أحتاج لدفع مرضي إلى خواء جامعة حلب بعض الظّهر، حين تشرق الشّمس وأنزل الدرجات عائدا إلى كليّة الآداب من المدينة الجامعيّة حيث مساكن الطلاّب؛ شمسٌ منيرةٌ تشرق بتمهّل مثل تصرّفات صديقي مقداد؛ بعض الطلاّب والطالبات يصعدون الدرجات إلى المدينة الجامعيّة أو ينزلونها. والدرجات صفراء فاتحة ومن مكاني ألمح كليّة الآدب المبنيّة على شكل سفينة. أريد أنْ أعض التفّاحة والإجاصة الطّازجة بعد أن أكلت الحساء أو البطاطا أو أيضا أحنّ إلى خسّ بافي شكفت وسردين مقداد وأعرف أنّ مرضي قد مدّ جذوره قويّة هذه المرة ولا شفاء لي بعد. أقول: سفينة الهواء تركب أذان المصلّي وحلب شاربٌ معلّق على التفّاحة، أقول: وداعا للمسجد المنويّ الذي بنيته من لبنات الحبّ والتعذيب وأيضا بافي شكفت شاعر في سيف الخسّ وسيف الدولة هو الشيخ مقصود وربّما بدل نواقيس حارة السريان لو علّقت موزات آتية للتوّ بعد انقطاع. أسأل مقداد، أيّ صوت للموز لو علّقَ بدل الأجراس الزّهريّة في السريان القديمة؟ فيقول صوتُ السمكة في علبة السردين في ملعب عامودا. أسأله: تلك الفتاة التي كانت تضع فرجها فوق فستانها وتضع أصبع الشفاه على فتحتي فرجها بدل الفولِ وربّما الصوفيّ لو كان زوجها؟ يقول مقداد، نذهب إلى بافي شكفت في الأشرفيّة، نأخذ الباص هذه المرّة، فنرى المئذنة الجديدة والجامع الكبير في الطريق. لكن بافي شكفت ليس لديه خسّ مكسودٌ مخلّل ومدلّل كما في بيتهم في عامودا. ربّما جلب بعضا من الخسّ معه ليقوّي ذاكرته في علوم الحقوق في أيّام الامتحانات. نذهب إلى بافي شكفت فلا نجده في البيت؛ نجد الجامباز ومحمّد رفي وسمير ومحمود يطبخون البطاطا، طعام الطلاّب. أين أبو شكفت؟
- إنّه في قاعة المطالعة
نرجع من هناك ثانية إلى الجامعة؛ نلمح بافي شكفت؛ كتابه في يده يقرأه ذاهبا، آتيا على طريق أحمر بالقربِ من أشجار الجامعة. فيصيح مقداد بملء الشّوارب:
- بافي شكفت، أين أنت يا رجل؛ كم اشتقنا إلى الخسّ والسّردين. يلتفت بافي شكفت وينزعج لأوّل مرّة ويقول لأبي في حوشنا حين يسأله أبي عن لقبه هذا الغريب:
- مقداد اخترع هذا الاسم وابنك كالرّاديو، تصوّر عمّي الشّيخ، حتّى في جامعة حلب بدأوا ينادونني بهذا الاسم!
نقترب في جامعة حلب من بافي شكفت، يحاول مقداد أن يهدّىء بافي شكفت:
- لأنّنا نحبّك يا بافي شكفت، لأنّنا نحبّك.
 
بافي شكفت: أبو الكهف















شارل شارلون

ألم يكتب عنّي الشّاعر عبدالمقصد الحسيني" يمشي مجنونا في يديه القنفذ والغزالةُ تروي نفسها في البئر لفيصلو المسكين".  أيضا كتب ابن عمّي عنّي" أخذ معه فستان حمامة حارة "منجولي" وحجل الراديو والتفّاحةِ من تلال موزا البنفسجيّة؛ غاب ومضت غزالة" بفرين" في عواصم الدّول والقارّات" وكتب عنّي ابن عمّي" فيصلو يرى في مقهى" جوزي" جريدة أشعاره ووجه سعديّة في شبابيك هانوفر وكأنّ ابن عمّي رمى نفسه في البئر الارتوازيّة؛ لا نسمع منه حديثا ولا ماركا وقنفذه أطلس العالمِ من حوشي". خبّأ "شمدان" نفسه في مدينة حلب؛ في غرفة في الطّابق الخامس؛ " لن يستطيع شارلون أن يكتشف الشقّة ولو ركب في طائرة هليكوبتر أو صعد فوق شاحنة نقل الحبوب بأكياس حنطة الجزيرة كلّها في خمسة مواسم". أتيتُ ذات مرّة إلى شقّة السقف في الطّابق الخامس؛ غرفةٌ صغيرةٌ مقسّمة بستارة شفّافة؛ ينام شمدان في قسم ويدرس في قسم من نفس الغرفة وليس هناك أيّ مطبخ. جلبتُ لنفسي وله كيسا من الكرز يلمع مثل عيونٍ في العشق منذ سنتين. ونظرنا إلى النّاس الماشين في الشّارع سفلا" إنّهم حشراتٌ دونكيشوتيّة حسب شوبنهاور". ألا ترجع إلى عامودا يا شمدان؟ " ربّما حين يهدأ جنقال ومخلب لسان الرئيس الفرنسي شارلون". يتحدّث الاستاذ مروان الذي يدرّس العربي في مدرسة المعرّي لطلاّبه عن قصّة القاصّ شمدان" إنْ عاد إلى عامودا، فإنّ سكاكين أعدائه تنتظره"؛ أخبر أنا أيضا شمدان، فيأكل شمدان كرزة ويضحك قليلا" سأعود إلى عامودا، أفتقدُ الجلوس في المساءِ معكم على الرّصيف في مرطّبات بسمة"." يا "برهاد" أحسّ أنّني يغمى عليّ والغزالتان تركضان في أحراش "عوينيكي وحمدوني" وأريد أن أتيه فوق الوديانِ والجداول". ذات يوم قبل الحوادث الشارلونيّة لشمدان كنّا نمشي حول السبع بحرات في الصّيف وكان شمدان قد شبع من عامودا" ما الذي يفكّرن فيه نساء عامودا سوى في عضوِ أزواجهنّ؛ يدخلُ فيهنّ صباح مساء؛ وهنّ يدرن حوله كأنّه مركز العالم"؛ يعجبني التصوير"؛ شمدان أتدري؛ تينة مها تربطني بنفسها بجذورٍ هي جذورُ العانةِ وهي بيضاء وهناك زرٌ يضغط عليه الحبّ في الصيف فتنطلق الجذورُ في الدوران وأنا معلّق في طرف الجذور وقلبي معي فأرتطم برأسي وعيني بالنّجومِ والأفلاكِ؛ توقّف مها الدوران فأسقطُ على قمرٍ منطفىء في بئر "آشي علاّوي" وأرى قبل السقوط البحار وهي حمراء؛ أرى الفضاءات وهي مثل برتقالة خضراء فوق نسيم". تشتدّ عزلةُ شمدان في سماء مدينة حلب في الطّابق الخامس ويقرأ يوميّا العديد من الجرائد والمجلاّت ويحلّ الكلمات المتقاطعة وينظرُ في النجومِ؛ يفسّرها حسب فلسفة المسيح مرّة ومرّة حسب توقّعات شيوخ عامودا وأحيانا يحاول أنْ يكتب قصّة عن وضعه؛ يكتب عدّة سطورٍ ويتوقّف" وحيي وإلهامي في عامودا وكس أخت الكهرباء". أرى صورة "بفرين" على رفّ مكتبةِ برهاد فيغمى عليّ بعد أن أتأمّلها لمدّة عشر دقائق فيأتي "جليل" بماء الليمون وزيت السّمك وورق الحنّاء وزجاجة عطور؛ يرشّ الخليط على أنفي فأتنفّس ثانيةٌ" أينْ أنا وأين الغزالة التي كنت أركبها في الوديان؛ أينْ الوعاء الذي كانت فيه الزمّردتان وأينْ غطاء الشّعر على وجه بفرين في الفجر وأحيانا بعد الظّهر؛ أين مها وشعر الظّهيرةِ تحت إبريق منِ السّمك؟". هذا هو السمك، وهذا هو ورقُ الحنّاء وعن أيّ بفرين تتحدّث والغزالةُ ذهبت إلى القصّابين. لا أعرف هل شمدان سوف يغمى عليه إن رأى صورة بفرين على السجّادةِ وعلى رفّ مكتبةِ برهاد؛ أحاول أنْ أصل إلى نتيجة هذا السؤال بعد عودتي إلى رشدي ويقلي لنا جليل الأسماك؛ وأنا لا آكل المقالي؛" قلبي الذي يعشقُ لا يستطيع شمّ الزّيت". وكتب ابن عمّي الشّاعر عنّي" الحباحب الحباحب؛ منديل الدبس والعسليّة يتقمّصه في ألمانيا؛ يحبّ العدس والباذنجان والكوسا وأمّي سهيلا وبفرين ومشط مها يستعمله لشوك القنفذِ الشائك". حين أخرج من بيت برهاد وأعود إلى البيتِ؛ يكتب الشّاعر عبدالمقصد الحسيني قصيدة عن حالتي " شاعرنا ذهب إلى هانوفر وفي منقاره العندكو؛ يجلبُ الياسمين من الكنيسة وبفرين عند البابِ قبل إغمائه بسببها"؛ تعجبه القصيدة فيواصلُ" يخسر السيرانات في الرّبيع والثوم في النّوم؛  في قضيبه الذكريات؛ يعوي في الاسفنج والحمّام مبغى". أذهب ذات يومٍ إلى برهاد فيستقبلني متهلّلا مثل أرنبٍ ضاحك" لقد حضّرت مفاجأة لشمدان تهزّ قلبه وتنسيه خوفه من أعدائه في عامودا"؛ هيّا يا برهاد، أرني المفاجأة!. ندخل إلى غرفة جلوس ونوم ولعب الورق وفي إحدى رفوف المكتبةِ أرى مفاجأة شمدان التي ستجعله مغمى القلبِ؛ صورة فوتوغرافيّة لبفرين، عينا بفرين غزالتان، ورقبتها حمامة وإن شربتُ عدّة زجاجات نبيذٍ من عند دكّان صديقنا "جورج جرجس حانوني" لن أستطيع نسيان هاتين الغزالتين فوقَ رفّ كتبِ برهاد الانكليزيّة.  أجلس في مساءِ هذا اليومِ أمام دكّان خالي الملاّ سليمان؛ أنا وكولوز وخالد جانكير وفيصل الشّاعر؛ تمرّ "أنيقة" لابسة ثوبا أبيض" إيه؛ شاعرة عامودا والقامشلي وكرنكو وحفت كورو، أيّتها الأنيقة في فصل الربيع بالثّوب الأبيض؛ كأنّك في ثلج الشيوعي ذي اللحيّة الكثّة، أيّتها الأنيقة، الأدب أنت، جكرخوين وأوسمان صبري آغا"؛ تضطربُ أنيقة للغاية وتخبر أخي "شيرزون" أنني أنا الذي حرّشت عليها فيصلو المجنون؛" لكن هل أنا الذي حرّش فيصلو الشّاعر على حبيبته سعدية في حارات الترابِ وأباريق الماءِ في صيفيّات عامودا؛ بعد ضربةِ المدفع في شهر رمضان، الضربة الأولى والثّانية ويصيح فيصلو: آخ؛ آخ؛ حسينة، أحبّك معلّمتي؛ أنتِ جميلةٌ مثل بندورة "عليكو"؛ وصوفك أسمر وجنسي وعضوي أصابه السيلان منذ سنتين بعد الوقوع في بئر حبّك؛ كنتُ أنظرُ إلى القمرِ حين انعكس وجه سعديّتي في بئر المدرسة ووقعت فيه مع الدلو ومفتاح الراديو". حين تشتكي أنيقة لأخي أنّني محرّض فيصلو للتعليق عليها تقرأ أيضا له قصيدتها الأخيرة" أحبّك؛ فرشاتك مكنسة عالم الألوانِ، ألوانك مدينة قامشلو وأفكارك جحيم الحبّ؛ أحبّ لحيتك تتجوّل خلف الأرضِ وفي ثلوج روسيا ولم تأخذني معك وأخذت غيري ولا رسائل تصل منك؛ كأنّما فجل الصيف وقشّ معرضك في المركز الثقافي كان بغيرك. لوحاتك تمشي فوق الرّيح وتنادي أعشاش الصبيّات والألوان غرقي". هل تعرف يا شيرزون؛ هذه القصيدة عن مَن؟ " حسب تقديري، هي عن الشّاعر عبدالمقصد الحسيني وهو يتجوّل بمكنسة صنعتها عايدة، ابنة عمّي، ينظّف أشواك القنافذِ وأبواق الشرغوف من سطح الملعب البلديّ أو هي عن الشّاعر نفسه يقسّم قشورَ البطيخ ويرميها على الخريطة؛ فيقع القسم المصلّب على ثلجِ موسكو أو عيون الحباحب". تصل أخبارٌ أخرى عن شارلون وترقّبه لعودة شمدان من حلب من الشّاعر "ياسين دردد" وشعره الكثّ" أنتظرُ في مكتبِ الجمعيّة التعاونيّة، أنا والشّاعر"أديب حسين" فيأتي الشّاعر "مروان حسام الدّين" ويخبرنا أنّ شارلون وجماعة من الحمّالين كانوا عند قصّابي عامودا وكلاّباتهم كانوا يسنّنونها وحدّة رؤوسها على حديدهم؛ بعد أنْ سمعوا أنّك في عامودا؛ يظّنونني أنت وخاصّة أنّ كلانا شعره مثل آبارِ الخابورِ وجذوعه الجائعة؛ لا تعد إلى عامودا؛ شلّة الحمّالين تخرج إليّ، يتقدّمها شارلون بفأس في يد وكلاّب وصنّارة في الأخرى؛ سيصطادك إن عدتَ؛ فاستأجرت أنا والشّاعر "أديب حسين" سيّارة ونجونا بجلدنا من شلّة الحمّالين أو صيّادي نهر الخنزير؛ لا تعد يا شمدان إلى عامودا؛ فالحمّالون في هذا الصيف أشرس من السّابق؛ كلّ حمّال يأكل في اليوم عشرين بطيخا ويحمل أربعين كيس حنطة فوق سلالم الشّاحنات؛ تصفرّ عيونهم وتحمرّ آذانهم وتطقطق رقابهم من الغضب ويترقّبون أقلّ مشاجرة". شمدان قاصّ كتب قصّة عن حمّالي عامودا" رئيسهم شارلون سرق اسمه من شارل شارلون الفرنسي؛ يرقصُ على طاولات المقاهي بحزمة من الكلاّبات والسيوف؛ يدخّن على سيّارات الأعراس المزيّنة وكأنّه في عرس ملاّ مصطفى البرزاني؛ أكل في يومٍ واحدٍ أحد عشر سندويشا من سندويشات" جتى"؛ لا يستطيع في السّرير مع زوجته فيضع فيها الكلاّبات والجنقلات وهي تعوي؛ فيصبح شعراء عامودا شعراء سورياليّين". وعرفتْ برفين أنّني واقع في عينيها الغزالتين فوق صورة رفّ كتبِ برهاد؛ تسابقان البيكاب الأبيض وأنا جالسٌ في الوراءِ كأنني راكبٌ ظهرَ غزالة بقميص أبيض ورموش سوداء؛ يرمي فيصلو نفسه في البئرِ ويعود شمدان إلى عامودا؛ نمشي أنا وهو في أحدِ الأزقّة الليليّة؛ حفرٌ في الشوارع وماءٌ متجمّع تنعكس فيه النّجوم. نسمع من مسافة بعض اللّغطِ؛ يمسك شمدان بساعدي ويطلب أن نسرع ونبدّل الشّارع " سمعت صوت شارلون وشلّته أو ربّما أصبتُ بالهوس الشارلوني". " تعال، نركب البيكاب يا شمدان" يوافق شمدان. نركب بيكابا أبيض؛ يأخذ البيكاب طريقا ترابيّا ويسرعُ ؛ في إحدى القرى الطينيّة أسفل التلّين يركض فيصلو مجنون القرية خلف البيكاب ويصيح" سعديّة؛ وجهكِ مثل قمر آشي علاّوي وسيلاني هو حلمي الوحيد منذ الصفّ السّادس في بئري الكفيفة" . تستيقظُ بفرين وتخلع سترتها المبلّلة بالماء الذي سكبته البارحة عليها" إنْ أتيت إلى بيتنا؛ لا تقعد هكذا هادئا؛ هذه ليست عادتك"؛ لا أردّ، أخوها موجودٌ وأخي موجودٌ وعلى الطّاولة قهوةٌ بدلَ النبيذ والبيكاب يبقى لشمدان وحده وتركض غزالةٌ خلف البيكاب على غير عادة الغزلانِ؛ تفتحُ الغزالة رموشها فيرى شمدان فيهما كلاّبات الحمّال شارلون وصحبته؛ فيطلب من السائق الإسراع أكثر. تتوقّف الغزالة وتصبّ لي قهوة أكثرَ في فنجاني وتنظرُ في عينيّ مباشرة، فأشعر بخجل قليل وأنظرُ إلى مشمّع الطّاولة بمزهريّاته ومربّعاتهِ" الغزالة تفتح رموشها واسعة فأرى بفرين في بيتها وعامودا منذ سنين وأرى بستانا وبيكابا وبئرا".  ينتظره شارلون في عامودا" سأضع قلمه في مؤخّرته؛ إن عاد إلى مملكة عامودا الأوركيشيّة؛ سأجعل تلّ شرمولا في قلبه وعينه حسرة؛ والميرا وطريق الدرباسيّة ومرطّبات بسمة وشارع بفرين وشاي شيرزون الحسيني". أمشي في هانوفر وفي جيبي قنفذ أهداني إيّاه الشّاعر عبدالمقصد؛ اسمه" شارل شارلون"؛ أقول لفيصلو" لا ترمِ بنفسك في البئرِ في هذا العامِّ؛ لسوف تطّلق سعديّة من زوجها في الأرياف ومها ستطلّقُ وبفرين؛ سنذهب أنا وأنت ونوافو وأحمدي دين وسلمانو المعتوه وبشيري قلعو ونتسلّق تل حمدوني أو نشتري البرتقال من البقّال عفديكي ونسرق البطيخ من بستان "عفدو عيّارو" ومقداد معنا. التفت إلى شمدان في باص ينقلنا من حيّ سليمان الحلبي" ذهبتُ إلى بيتِ بفرين برفقة علي جازو وجليل؛ أخذتُ معي قنينة نبيذ حمراء؛ جاءت بفرين، طلبتُ منها كأس ماءٍ فارغة؛ فجلبت فيه الماء؛ لم تكن تعرف أنّني أريدُ شرب زجاجة النبيذ المخبّأة تحت قشاط بنطلوني؛ فادّعيتُ أنني انزعجت منها وسكبت الماء من الكأس على قميصها الأبيض وتنوّرتها السوداءِ؛ على ثديها الأيسر وشفتها تبلّلت وأنفها وعيناها تبلبلتا.
12.03.07




























السّحلب طعام الثّعلب

أقول له: يا حيندر أبو العناتر، اللباد أصبح صناعة عتيقة؛ لماذا لا تعود إلى زمن غوّار الطوشي والباذنجان الذي يتغنّج ويسمّونه الغنّوج. فيردّ حيندر: أكره مدينة دير الزور، سكّانها أغلبيتهم صدّاميّون، لو كنتُ وزير خارجيّة سوريّا لمنحت الدير لصدّام. دير الزور جافّة وثقيلة مثل مزاج سكّانها ولهجتهم مزعجة، يتابع حيندر. قريبي الذي ذهب من قبره وأصبح أحد شيوخ مدينة ماردين لم يزل في قبره، أقول لحيندر. لا، إنّه يملك حصّادة أراها أثناء الليل تحصدُ فوق المريخ؛ يردّ حيندر بانزعاج قليلا حيث يريد النّوم. ينامُ. ثمّ للحظات قليلا يستفيقُ ويغلقُ شبّاك القطار.
حيندر هذا عمّ صديقي "مشتاقو" يصنع منِ صوف الأغنام اللبابيد وفوق دكّانهِ صورته على فرسٍ وأمام الفرسِ كرةٌ كبيرةٌ من اللباّد الأبيض والفرسُ سوداء وحيندر في يده إحدى المحالج مائلا قليلا كأنّه سيركب الفرس في الحال ويقوم بالرياضة فوق اللبّاد.
سيأخذنا حيندر إلى مدينة حلب ليقوم بتسجيلنا في إحدى الفروعِ  ويختار هذه الفروع  لنا. يقول: أنت ابن الشّيخ عليك أنْ تدرس علوم القرآن على يدي "البوطي" وتقوم بترجمة"مموزين" ترجمة أصح؛ حيث أهمل البوطي الكثير من الأبيات التي تتحدّث عن التصوّف واللبابيد ولو جئت إلى البوطي لحلجته مع الفرس فوق اللباد. أمّا عن ابن أخيه فيقول: على ابن أخي أن يدرس العلوم الهندسيّة ويتعلّم كيف يبدّل العائلة من مكتومي القيد ويصنع من التراب الفخّار ونفتح بعدئذ معمل زجاج؛ ثمّ يقول: إن أخذتكما إلى حلب لتسجيل هذه الفروع فاحذرا وأنتما صديقان، ابن أخي، وابن الشيخ عفيف، شيخي ولم أصنع لكم أيّ لبّاد بفرس وبدون فرس.
 نحمل أمتعتنا نريد مغادرة الفندق والذّهاب إلى محطّة القطارات الرئيسيّة قبل موعد انطلاق قطارنا بثلاث ساعات كاملة حسب مشورة حيندر؛ يرانا بعض الكهول الكورد في الفندق مع امرأة معهم؛ فيريدون أن يرافقوننا إلى المحطّة وعدم ركوب التكسيات الغالية. يرحّب بهم حيندر ويصف لهم معرفته بحلب وضواحيها. نخرج من الفندق وحيندر يخرج العود والدولابين ويدفعه أمامه وابن أخيه يحمل الأكياس الأخرى، يسرّ لي حيندر أنّه لم يجرّب سابقا الذهاب على الأقدامِ إلى محطّة القطارات ولكنّ الأمر سهل مثل دفع هذا الثعلب الذي يأكل السّحلب. يمشي حيندر ونتبعه؛ نقطع شارعا طويلا وننعطف إلى شارع طويل آخر؛ نصل إلى محطّة الباصات ولكنّنا نريد محطّة القطار. نتابع المشي ثانية ونرى من مسافة بعيدة قلعة حلب فنرجع الطريق الذي قطعناه ونمرّ بإحدى الجوامع الكبيرة. يبدأ الكهول والمرأة التي معنا بالتذمر والهمس ويسألون حيندر؛ كم من المسافة بعد؛ ولقد انهكت أقدامنا. اصبروا قليلا؛ اصبروا، كم أنتم قليلو الصبر وسريعو التذمّر. كهولنا هؤلا ء لا يعرفون شيئا، يقول لي حيندر ونتابع فنصل إلى باب الفرج ثانية ونلمح فندق حجّي كرمو؛ عندها يشحب وجه حيندر ويضطرب خاصّة أن مشينا الآن استغرق ساعة ونصفها ولم يبق الكثير لينطلق القطار. يقول حيندر: أنا حيندر سأخرج الطريق إلى القطارِ من بطن أمّه ويسرع من خطواته فنسرع أيضا جميعنا قلقين وراء؛ والثّعلب الذي يشرب السّحلب يسرّع من رشفاته. نصل إلى ساحة تفوح منها روائح كريهة آتية من نهر قويق وإلى جوانبها تقف بعض سيّارات الأجرة البيضاء فيتهلّل وجه حيندر قليلا ويقول: السّاحة هي ساحة سعد الله الجابري هذا يعني أنّ الحديقة قريبة والمحطّة تتبع بعد الحديقة. يشير الرجال والمرأة معنا إلى رؤوس أشجار ربّما كانت هي الحديقة التي يقصدها حيندر؛ عندئذ يتضاحك حيندر ويقول: بالطبع هي الحديقة وبعدها المحطّة؛ لقد أخذتكم كلّ تلك المسافة؛ فقط لأريكم حلب الشّهباء وأجوّلكم فيها، أنتم كهولنا الذين لا تعرفون من مدينة حلب سوى فندق حجّي كرمو، لقد اغتنمت الفرصة وأديت لكم خدمة بالبلاش. ويقول لي: شيخ، هل صدّقت أنّني أضعت الطريق إلى المحطّة. كلاّ يا حيندر كانت جولة من جولاتك وصولاتك. ثمّ نسرع السّير صوب الحديقة.
قبل أنْ نذهب مع " حيندر" أنا وابن أخيه إلى حلب؛ كان حيندر يقول لابن أخيه: لا تأكلوا السّحلب في مدينة حلب، فإنّه مني الثّعلب! لم أكن أعرف السّحلب آنذاك والاسم كان بلفظه غريبا ويشبه الثّعلب؛ خاصّة حرف الباء في الأخير.
هذا الدخان يذكّرني بدخان المدفعيّة المضادة؛ لم أكن آكل السّحلب في مدينة حلب في أثناء الخدمة العسكريّة، إنّه مني الثّعلب؛ إنّني أعرف مدينة حلب زاوية زاوية وزقاقا زقاقا وجامعا وكنيسة وساحة سعد الله الجابري والفوكسات والبابوجات والقباقيب؛ هناك أيضا "كرخانات" لم أكن أزورها؛ آتي في عطل الجيش وأنام في الهوتيل في باب الفرج والسّاعة على البرج تميل فأعرف أنّي ينبغي أنْ أذهب إلى القطعة العسكريّة. يتابع حيندر: يأتي كورد بسطاء من كافّة أنحاء سوريّة ويعيشون في فندق حجّي كرمو. يلبسون القباقيب ويضعون طاقية بيضاء حلبية ويتعوّدون أكل السّحلب ويصبحون حلبيّين ثمّ يشترون الزعتر ويبيعونه في الليل بالأسود.
أخذنا حيندر إلى حلب؛ لأننّي وابن أخيه لم نكن نعرف أحياء حلب ولا اللهجة الحلبيّة، نعرف اللهجة المردنليّة والراشنية والرقاويّة في لفظ العربي الفصيح. وحيندر أمضى العسكريّة في حواليّ حلب فوق القلعة بمدفع. وهو يعرف الحلبية عن ظهر قلب ويعرف أينْ تقع جامعة حلب. أقول لحيندر: يا حيندر العناتر، ألا تعرف أنّ البوطي يدرّس في جامعة دمشق علوم الدّيانة لابن الحاج "قاسي" صديقي "منجو" الذي كان يعشق امرأة شاميّة ويذهب برفقتها ورفقة ابنتها الصّغيرة إلى معرض الزّهور؟ عندها يصمت حيندر قليلا ويقول لي: دعني، يا شيخي أفكّر، أعني شخصا آخر والشخص المقصود كان يحبّ مع فريدون ابنة أحد آغوات نهر الخنزير وكانت حصّادة عتيقة تقف طوال العام هناك ولم تكن تذهب إلى موسم الحصاد. ربّما كانت الحصادة تستخدم كباص" حجّي مصطي". يقول لي حيندر أيضا: هناك جماعة من مقامري عامودا ولا عبي اليانصيب، سيسألونك ذات يوم على المقبرةِ عن قبرِ قريبك الشاب الذي خرج من القبرِ بعد عدّة أعوام وذهب إلى تركيّا؛ لا تقل أين يقع القبر الفارغ! إنّهم يتبرّكون به ويؤذون الأرواح بالأرباح. المهمّ يأخذنا حيندر إلى حلب. في الطريق والقطار، يصمت حيندر طويلا وينظر إلى دخان القطار ويبدأ بعدئذ الحديث لي حيث يكون ابن أخيه" مشتاقو" نائما. يا شيخ، كنت آتي إلى الفندق وأنام ببوطي العسكري وأذهب لأجل السّاعة اللعينة، ولم أنم كفاية، إلى القلعة حيث إيوان سلطان الأكراد صلاح الدّين. يستفيق ابن أخيه" صدلحّو"؛ لا تصدّق ما يقوله حيندر عن حلب والكرخانات والسّاعات ويضحك "صدّاحو" ضحكة مستهزئة بالعمّ. أمّا أنا فأحاول أن أتعوّد على طريقة حيندر في الخيال وأتكلّم معه أيضا بالخيال. ما رأيكما أنْ أسجّلكما في جامعة دمشق بالوكالةِ؟. لانريد أنْ تسجّلنا في جامعة دمشق بل في جامعة حلب؛ فهي أقرب وأنت تعرفها يا حيندر زاوية، زاوية، دكّانا، دكّانا وساعة فساعة والمدفعيّة وحماية لبابيد الوطن يا حيندر، يقول " صّباحو" ابن أخيه. أخيرا نصل إلى حلب. يطلب حيندر تكسيا ويأخذنا إلى فندق حجّي كرمو. على سطح الفندق يشير حيندر إلى قلعة حلب. تلك هي قلعة حلب؛ قريبا ستمتليء بالروسيّات الشقراوات؛ ما رأيك يا شيخ بالشّقراوات وانتم الشيوخ قلوبكم رقيقة مثل ورق لفّ التبغ؟ الشّقراوات جنسيّات يا حيندر. يضحك حيندر ويقول: ابن أخي" صيّاحو" لا يفهم هذه الأشياء وينزعج ابن أخيه؛ فيلبس قبقابا وينزل من السّطح. يذهب حيندر يوميّا ويجلس في غرفة التلفزيون ويتحدّث مع الكورد المحتشدين في الصّالون أو يسأل عن أسعار الصّابون والدّجاج والبقدونس ويسأل: هل يوجد رمّان في مدينة حلب؟  يصف لي حيندر نفسه أنّه يشرب البيضاء وأنا أصف له أنّني أشرب أحيانا البيرة ويقول حيندر: أمّا أنا فالبيضاء، أتعرف ما أقصد، العرق الأصفى؛ القح ابن القح. أصدّق حيندر بتجاربه ومعرفته للسحلب وهو يعرف فندق حجّي كرمو وأيضا اللّهجة الحلبيّة الطيّارة ولو أنّي لم أجده يتحدّث بها مع أيّ حلبيّ. يأخذنا حيندر إلى الجامعة، فأطلب أن نأخذ باصا ولكن حيندر يصرّ على أخذ التكسي، فهو سريع فنأخذ التكسي. في الجامعة أكتشف أنّ حيندر لا يعرف أيّ شيء ولا يريدُ أنْ يسأل فنلجأ إلى أحدِ الكردِ في اليومِ التّالي وهو بنشاطه يقومُ بتسجيلنا. هيّا إلى مطعم أحد أكراد عفرين وكوباني لنأكل الكباب والسلطة الحادّة؛ أنا أشرب البيضاء، الخمرة البيضاء؛ أتعرف ما أقصد يا شيخ وكاسات وراءها كاسات وكأنّها الماء الزلال وكأنّ ذبابة تطنّ، هذا هو مفعولها على عمّك وعمّ" صلحو"؛ فلنذهب إلى الطعام. آكل قليلا وأطلب زجاجة بيرة وأنتظر حيندر أن يطلب البيضاء، ولا يفعل. يطلب منّي أن نتقاسم زجاجة البيرة ويأخذ ملء كأس. نخرج، فلا يعرف حيندر الطّريق إلى الفندق ويذهب ليجلب تكسيا ويسلمّ على السيّارات وسائقيها في وسط الشارع؛ مائلا من تأثير البيرة إلى هذا الطّرف من الشّارع والطّرف الآخر ويصيح متّجها إلى التكسيات: خاي وينو فندق حجّي كرمو؟ أذهب إليه وأمسك به، الفندق هو أمامنا فقط أبعد بشارعين؛ لقد كلّفتنا التكسيّات معظم نقودنا. أجرّ حيندر وهو يترنّح. في يومنا الأخير، يأخذ حيندر تكسيا ويقول لي ولابن أخيه: ابقيا في الفندق ولا تخرجا في غيابي فتضيعا في أسواق حلب المسقوفة وشوارع الأزقّة بالأحجار المرصوفة السوداء وانتبها ولا تأكلا السّحلب فهو بول الثّعلب مثل الفلافل لا طعم له وغير مغذٍ. ننتظر حيندر طوال اليوم ولا نخرج من الفندق ولا نأكل السّحلب حسب مشورتهِ؛ مساء يعود وفي حضنه أكياس عديدة؛ فيها بقلاوة حلب، فيها زيت الزّعتر وزعتر حلب؛ فيها المناقيش والملابس وأيضا عود يدفع دولابين وفوق الدولابين ثعلب يفتح فمه وينحني إنْ تمّ دفع العود ويدخل بوزه في طاسة فيها نوع من مادّة بيضاء كثيفة تشبه السّحلب. يقول حيندر: السّحلب طعام الثّعلب ويدفع العود فيدور الدولابان فوق سطح فندق حجّي كرمو ويدخل الثّعلب فمه إلى الطاسة شاربا السّحلب. لقد اشتريت هذا الثّعلب الجميل لأطفالي.






الطاووس الأعمى أو الحبّ الأبيض

للأسف؛ لا تعترف أمينة برسائلي وتطلب من حاملي الرّسائل أنْ يحتفظوا بها لأنفسهم ويتعلّموا منها البلاغة والنّحو والصّرف العربيّ العاموديّ الحسينيّ. المسيراتُ تحتشدُ أمام مخفرِ عامودا ومركز بلديّة عامودا الذي يسكن فيه مدير النّاحية وربّما يخرج لدقيقتين يراقبُ هذه الحشود الزّاعقة رافعا يديه مثل صدّام وأيضا ببضعة رموز تنكيّة ونحاسيّة ويبصق خطيب الثّورة الشّعارات التي يبدأ باختراعها ارتجاليّا من خلفِ عدّة ميكروفونات موضوعة على سطح المدرسة ومركز النّاحيةِ وأنا لا أستطيع بعد أن ألمح أمينة من خليط الحماس ويبدأ رأسي بالحزن والفشل الذي أعانيه والمني الذي أحتفظ به في مستودعاته لا يعرف بعد شيئا وبدل أن يجد ضالّته يفكرُ أن يحبس نفسه في الغرفة ليتحوّل إلى أشعّة ذريّة تخترع في يوم ما في الكتابة ووعيي يريد أمينة ولاوعيي أيضا يريدها؛ لكن أين الحبّ الضائع وأنا وراءه في هذه المسيرات الجبهويّة في عامودا البعيدة جدّا عن اسرائيل، البعيدة عن أنقرة وباكستان وعربستان ولبنان. وعامودا، لماذا تصبح في المسيرات فلسطين وخطيب الثّورة الأعرج؛ هل هو رئيس سوريّة لنصبح جنوده لنحرّر طاجيكستان. يا أسفي على البابِ وأنا الخجول، أكتب في إحدى القصائد السورياليّة السوريّة بعد المسيرة؛ بعد أن أذهب إلى قريّة "نجّارة". هناك نأخذ صديقنا عبدالرّحمن معنا، عبدالرحمن الذي تربطه صداقة مع "أبي فاطما" النحّات الشّاعر الكورديّ الفلكلوريّ والقرية الحزينة "نجّارة". في غرفة الشّاعر صورة كبيرة الحجم للحية أجدادنا ماركس وأنجلز؛ لا يعرف ابن خالي، مَن هذان الجدّان؛ فنضحك منه ويصنع أبو فاطما لنا شايا غليظا أسود ويخرج غسّان غليونه الذي صنعه بنفسه من الخشبِ، يضع فيه سيكارة بغير فلتر ويمتصّ الدّخان على حبّ مها. أطلب منه بعدئذ الغليون والسيكارة وأمتصّ الدّخان على حبّ أمينة في المسيرات؛ أرتشف الشّاي الغليظ الكورديّ وآكل بعض عيدانه وأمصّ الدخان ليصل إلى مستودعات المني في خصيتيّ وأوردتي؛ يبدأ رأسي بالدّوخة والتعبِ والغثيان يرتعش في معدتي فآخذ كأسا أخرى أكثر سوادا فيشتدّ الغثيان؛ عند ذاك أكتب: يا أسفي على الباب وعلى مني الثعلب الدّائخ وربيع حنّاء الفرج المراهقِ في مسيرات البعثِ؛ يا أسفي على بذلة الفتوّة وشاي" نجّارة" وغليوني الفضيّ ينتصب تحت اللّحاف وفي المسيراتِ على طاووستي البيضاء على دفترها؛ تحلّ وظائف الرياضيات والجبر والهندسة؛ يا أسفي. انهمك أبي في الليلة التي تسبق ابتداء معسكرنا في الصفّ العاشر في كتابة رسالة قويّة بالأدلّة والحجج، رسالة موجّهة لمدرّب الفتوّة في مدرسة أبي العلاء المعرّي يشرح فهي أنّني ضعيفٌ جسديّا لا أستطيع أن أخدم وأقضي شهرا ونصفا من أيّام المعسكر وأنّني أصبت بالصّفارِ واليرقان في الكبد قبل سنوات في الصفّ السابع الإعداديّ في مدرسة التّحرير. كتب أبي رسالته كعادته على تلك الصّفحات البيضاء وبقلم حبر وخطّ مليء بحبّ اللّغة التّي يكتب بها ويدرّس قواعدها للمعلّمين ولطلبة البكالوريا وأحيانا لطلبة شهادة التّاسع الإعداديّ مستعينا بالحبرِ ليمنعني أن أشارك الطلاّب الآخرين وخاصّة في الصيفِ وجهنّم الصيف كما يصفه أبي على الغالب ولا يخرج من صومعته إلاّ في النادر تجنّبا وحذرا وخوفا من القيظ المستعر كالنّار ولم يكن يعرف حبّي لأمينة. تناولتُ الرّسالة وذهبتُ إلى المعسكرِ واحتفظت بالرّسالة في جيبي وقرأتها لي بدل المدير أو المدرّبين. قبل أنْ يكتب أبي رسالته كنتُ أعرف أنّه يخطّط لذلك وكنتُ أنا أخطّط لأشياء أخرى بديلة أو كان لاوعيي الظّاهري والقلبي والمراهق المتشوّق الذي بدأ يرى الأشجار الصّغيرة الخضراء والشّوارع رؤية أخرى. بدأ ينظرُ إلى بلكونات بيوت الطين نظرا طويلا ويشعرُ أنّ مدينة عامودا مثل حيّة منعشة تتبدّل وتأخذ صورة حياة وحيويّة لم تكن لها في سنواتي السّابقة على المعسكرِ. كأنّما الرّبيعُ بتفاصيل أخرى غير تفاصيل النّاس بدأ يستلقي على الأسطح والبيوت المقشّرة الطلاء والدّرجات المنعزلة والأشجار الباهتة بدأت تخضرّ وتهتزّ بريح خفيفة كانت ريح قلبي آنذاك وقلبي أيضا يصير حجرا أملس ويلعب عليه الصبيان أو يثور أحيانا مثل فيضان نهر الخنزير وأشجار زيزفون المقبرة. وبدأت أيضا في انتظار مناسبات المسيراتِ في المدينة؛ مناسبات أعياد حزب البعث، أعياد الحركة التّصحيحيّة، ثورة الثّامن من آذار، عيد جلاء الفرنسيّين عن سوريّة وعامودا الذي أتأسّف له الآن وآنذاك كان لي فرصة. مسيرات مدرسة زنوبيا للبنات على طريق عامودا إلى الحسكة والعكس؛ تنطلق من مدرسة زنوبيا على الشّارع العامّ فتتوقّف عربات الحمّالين الخشبيّة، تتوقّف الدرّاجات النّاريّة التي تنقل المسافرين بين عامودا والدرباسيّة والقرى والغبار الذي ينام. تأتي المسيراتُ إلى مدرستنا أوّلا، فتيات كثيراتٌ ببدلات الفتوّة واليافطات والشّعارت الفارغة التي تمجّد الدولة والحزب والفتيات يرددن بأصواتهنّ الغريبة لي الشّعارات الطنّانة التي أشعرُ بخوائها آنذاك. لماذا يجلبون كلّ هؤلاء الفتياتِ الصّغيرات الجميلات بوجوههنّ البيضاء إلى مدرستنا وهنّ يحملن هذه الأقمشة الطّويلة العريضة وعليها خطّ الفنّان محمود عيسى وببقع ودوائر مقصوصة فيها كي تعبر الرّيح والهواء. حيث جارنا محمود عيسى هو فنّان الثورة كما يلقّبه عبداللطيف ووليد. كان أجدى للبعثيّين منظّمي هذه المسيرات بحشود الفتيات أن يجلبنهنّ إلينا لكي نتأمّل جمالهنّ ونتعرّف عليهنّ ونقع في حبّهنّ ونمارس الجنس معهنّ بدل ممارسة عادة الاستمناءِ في الفراش وفي الحمّام وفي البريّة أو ممارسة الجنس مع الدوّاب كالحمير مثلا في القرى. أعرف من ذلك الوقت أنّ البعث حزب غبيّ أو هو أغبى الأحزاب التي اخترعها البشر ولو أنّني لم أكن أفكّر في المسيرات من هذه الوجهةِ حيث الحبّ الأعمى كان قد أمسك بيدي ومنعها بالوهم وشعور بالإخلاص أنْ تمسك بعضوي وتفركه ليخرج ذاك الحليب الدسم الثخين؛ من هذه الوجهة كنتُ محصّنا ويبقى الحليب في مستودعاته لكي أحلم بأمينة وهي تحمل علما سوريّا أو علم حزب البعث السوري أو تمسك بخشبة من أخشاب ستارة الشّعارات المخطّطة بيد فنّان الثّورة والتّحرير جارنا محمودو. تبدأ إحدى المسيرات غدا وأنا أحضّر قلبي بطريقة خاصّة بي؛ أبدأ بقراءة "ممو وزين"؛ في الحديقة تختبيءُ "زين" تحت معطف" ممو" حين يتفشّى سرّ لقائهما ويدخل الأمير إلى الحديقة باحثا عن أخته" زين" ليقتلها ويقتل العاشق" ممو" ولكنّ معطف " ممو" العاشق فضفاض كبيرٌ ويواري "زين" كليّة عن الأنظار وهو يبدأ بلفّ سيكارة هناك في الحديقة قرب شجرة التّين. يجلس الأمير إلى جانبه ويطلب منه علبة التبغ ويشرعان في التّدخين بلذّة في المنتزه قرب نهر" جقجق" في القامشلي. أنتهي من قراءة الرّواية التي ترجمت عن الكورديّة وتخلّدت القصّة في قلبي في اليوم الذي يسبق المسيرة التي أعرفُ أنّ أمينة ستشارك فيها وهي تحمل صورة الرّئيس بدل أن تحمل صورة غلاف كتاب الشّاعر" أحمدي خاني"؛ لكنّني أعذر أمينة، الصّورة على الغلاف لا تعجبني جيّدا؛ العاشق"ممو" يلبس ثيابا فارسيّة وهو طويل جدّا ورأسه صغيرةٌ مثل رأس طير. لماذا رسمه الرسّام الذي لا أعرفه برأس صغيرة مثل رأس النّمل؛ هل قصد الرسّام أيضا أنّ الحبّ أعمى وذو رأس قليلة الدّماغ، صغيرة. إنّه ذكاء من الرسّام إذن؛ إن كان هذا هو المقصود. أمّا في ذلك الوقت فلم يكن المترجم البليغ قد تبرّأ بعد من نسله وقومه وكان له برنامج في يوم الأربعاء في التلفزيون كنت أشاهده أحيانا وتعجبني الفصاحة بالعربيّة من كورديّ متواضع متديّن بعيون ذابلة وكوفيّة شاميّة دمشقيّة بيضاء. كنتُ في قلبي أشكرُ المترجم في فصاحته ونقله للقصّة التي قرأتُها طوال اليومِ وأتعبتُ نفسي في متابعة القراءة وحيث نفسي كانت تبتعد في التفكير وتتوقّف الأحداث والمناجياتُ في القصّة؛ تبتعد النّفس في التفكير في أنفِ أمينة الصغير، في وجهها الشّاحب الأنيق وفي شالها ذات يوم خريفيّ؛ المعطف الريشيّ الأبيض وأمينة التي كانت طاووسا أبيض يمرّ في شارع جارنا وأنا أنظر إلى المنشغلين في الوحل. وحبّي للطواويس المزوّقة المزدانة قرب العاشقين في ترجمة محمد سعيد رمضان البوطي على الغلاف لمم وزين. مَن هذا الطاووس الأبيض الذي مرّ للتوّ متوجّها إلى جهة الصّوامع وإلى القامشلي بعدئذٍ ولم يعد أبيض بل متعدّد أرياش اللّونِ ولن أستطيع اللّحاق به بعد أن جلس في سيّارات أغنياء القامشلي وأنا فقط ببسكليتي الروسيّ الأخضر الذي يشبه السّلاح أكثر مما يشبه الدرّاجات ويتعطّل قريبا بدون أن تكون قطع تبديل له في سوريّة أو تبدأ أعضاؤه في الّذوبان تحت جهنّم صيفنا في عامودا والطاووس يرفرف بذكاء في الخطط وأمينة يدور حولها طواويس في سيّارات يابانيّة وفي بيكابات جزراويّة. كيف أحارب ببسكليتي الأخضر الروسيّ الطواويس النوويّة للحبّ والأرقِ وعدم الاستمناءِ وحبّ أشجار توتِ القامشلي وعامودا وبعدئذ البحثِ عن شجرة توتِ في جمهوريّة ألمانيا الاتحاديّة لعلّي أصطاد فوقها طاووسا أبيض بعد أن أصبحت رأسي صغيرة مثل رأس" ممو" وبدل الطواويس تنعق الغربان وبدأت أحبّها ولو ناالأنّها فاحمة فهي لي تقف على أعلى البناية وتقول الحقيقة. طوال اللّيل والنّهار ينعق حبّي بين صفحات أسطورة" ممو وزين" في المساء قبل المسيرة غدا ويشرد قلبي  فأصنع لي الشّاي وأسهر إلى الغدِ ثمّ أنامُ وأستفيق وتخرجُ" زين" إلى المسيرة من تحت عباءة "ممو" ومن بين صفحات الشّاعر" أحمدي خاني" قبل أربعمائة سنة وسبعين من الأيّام ومن الليالي الخرافيّة الكورديّة بغير وطن ودائما في الكساد. وتردّد" زين": أمّة عربيّة واحدة، ذات رسالة خالدة؛ في فمِ أمينة في المسيرة وأنا إلى جانبِ أحجارِ الرّصيفِ الملوّنة، أبيض ثمّ أسود ثمّ أبيض ثمّ أسود؛ أمينة ببذلة الفتوّة بين الفتيات في الوسط والبردُ قد جعل وجنتها حمراء وبشرتها شاحبة وتفورُ صباحا، ألمحها قليلاً؛ وجهها فقط ثمّ قليلا من يدها ثمّ ظهرها وبعدئذٍ؛ أين أمينة في الفتيات الكثيراتِ والفوضى في أرتال المسيرة وأحد مدرّبي الفتوّة بعصاه يصحّح الصفوف ويلقي شعارا بائسا بحماس أو يكون هو الأستاذ خضر، خطيب الثّورة الأعرج، الأعرج الذي يخطب فيفور ويثور بلغمه وريقه وتفله بدل قلبه وتسقط الشعارات على وجوه النّاس والمشاركين ممزوجة بالبصاق. أين اختفت أمينة؛ هل تحت جبّة خطيب الثّورة المحمول على الكتفين أم تحت يافطةٍ طويلة بيضاء عريضة ولماذا ليست أمينة اليوم طاووسا أبيض إنّما هي طاووس حبّ ببذلة عسكريّة من مدرسة زنوبيا. أنا خارج المسيرة وتلتقي المسيرات عند مدرسة المعري؛ فتتقدّم مسيرة زنوبيا مسيرة المعرّي؛ الفتيات في المقدّمة وقوّات المعرّي في الخلف لتحرير لواء اسكندرونة ثمّ المسير في المسيرة؛ غير مجدٍ في مذهبي واعتقادي، غير ملّة البعث وصوته العقائدي؛  يصيح بصاق خطيب الثورة مشوّها بيت الأعمى المعرّي. تصل المسيرات إلى السّوق ويتفرّج النّاس وأنا أتابع يدي أمينة وريشها ويافطتها وهي أحيانا تلتفتُ إليّ دون أن تعرفني نظرتها؛ نعم، أنا هو الذي يمرّ في اللّيل حين تكونين نائمة في شارعكم بدرّاجتي الروسيّة التي تذوب في الصّيف وحين يأتي الشتاء أصنع منها ثانية الدراجة السّابقة وأضع قلبي على السرج مثل طاووس أسود ينعق يخرج في الليل فقط ويأتي يراقب الشبابيك والمداخن ويعرف أنّه في الحبّ في مثل حقل يتزحلق فوقه هنا وهناك ويدري وينتظرُ إلى أن تأتي المسيرة الأخرى ليقرأ كتابا مترجما قام المنفلوطي بتعريبه وتصحيحه بالبلاغة والنّحو الممتاز ويقارن بينه وبين نفسه وبين حبّ غسّان وسيرانو دي برجراك بأنفه وأنفي الكبيرِ وقوّتي في كتابة الرّسائل.



















هذا هو: ديق، ديق

يملك أبي خالتين عمياوين؛ سعادا وأمّ سلمانو، سعادا في عامودا، في أواخر عامودا بأشجار بنيّة متشقّقة بصيرة في الطبيعة؛ لا تستطيع خالتي سعادا أن تراها لأنّها عمياء؛ لها عينان تكحّلهما قبل أنْ تنام لكي ترى أحلامها في الصّبا. عيون خالة أبي سعادا في شيخوختها وهي عمياء، لايمكن التمييز بين أبيض العيون وأسود العيون أو بنيّ العيون في عيني خالة أبي ولكن جنّيتها أو عفريتتها بالرّغم من ذلك تأتي إليها وتعبّىء لها إبريق الماء لتتوضّأ خالتي وتفرش لها الجنيّة سجّادة صلاتها؛ كلّ مرّة باتّجاه قبلة مختلفة وتصلّي خالتي وحين يزعجها ابن عمّي حسن بأن يقف أمامها في الصّلاة، تلتفت هنا وهناك وهناك باحثة عن عصاها التي يخافها حسن وتقول له، والله لن أتركك تأخذني في الصّيف إلى حجّي سارا أو سأطلب منه ألاّ يعطيك شيئا من الزّكاة. فيهدأ حسن ولكنّه يزعجها ثانية في صلاتها بأن يخبّىء عصاها في مرحاض بيتنا وتترجّاه الخالة طويلا أن يأتيها بعصاها أو تهدّده بعفريتتها أو تعده بإعطائه بعض الليرات. يملك أبي خالتين، الخالة الثّانية "أمّ سلمانو" تقيم في تل شعير وابنها سلمانو له درّاجة فليبس سوداء طويلة بأسود فاحم وبارق جدّا. لدرّاجة سلمانو أرياش تنسدل في أطراف حديدة القيادة وبوق تنكيّ وأجراس وعدّة مصابيح يشعلها في النّهار حين يقدم إلى عامودا. يُجلس سلمانو خالة أبي العمياء أمّ سلمانو أمامه على الدرّاجة ويأتي بها إلى عامودا في الصيف حين يعطي القمح وفرته ومحصوله ويوزّع كبار ملاّكي الأراضي في الجزيرة زكاتهم أمثال آل الشويش وآل كرّو وآل الدبّاغ وحجّي سارا وبيتنا أيضا تتجمّع فيه أكياس صفراء خيشيّة ذات خيوط القنّب في الممرّ إلى باب البيتِ وتخرج حشرات بدروع صلبة، قاسية من فم جوالات القمح تتجوّل فوق الكيس أو تقف تنتظر، تفكّر في فصل الصّيف وفي القمح؛ في فصل الجوالات وببلادة أحيانا لكنّها بدروعها الصّلبة أحيانا تصنع رنينا في باحة بيتنا قرب برميل الماء. الحشرات والجنادب والجراد أيضا لها حصّتها في الزّكاة وتطلب منّي أمّي أنْ أتأمّل فيها؛ يا لأعاجيب يدي الله وهذه الدروع على ظهورها، انظر، يجلب النّاس لأبيك من أقاصي الجزيرة زكاتهم ويقبّلون يديه يا لأعاجيب يدي الله وأكياس الحنطةِ معبّأةٌ بقوّة فتخرج الدروعُ للتجوّل وتشمّ الهواء في ممرّ بيتنا. الصّيف حنطة الخيرِ. يترك سلمانو أمّه خالة أبي العمياء أمّ سلمانو في بيتنا وينطلق على درّاجته إلى بيت قريبتنا" سورا". لقد جاء سلمانو من تل شعير وتفرح سورا ويلعب سلمانو أنّه خفيف النكتة وخفيف العقل أيضا لأجل سورا. اغسل رأسك من الغبارِ ومن أجراس بسكليتك ومن طريق عامودا وتل شعير والزّكاة ومن عماوة عيون خالتنا أمّ سلمانو. لقد أوقفتُ حصاني الحديدي بقرب باب بيتكم، يقول سلمانو، ولن يستطيع الهرب، فقد شددته إلى حديد البابِ بأعنّة من الحديد والتنك والغبارِ وهو يصهلُ أحيانا يناديني بأجراس إن اقترب الأولاد بالعبث به وحين أتحمّم في بيت" سورا" أسمع صهيله من كوّة المطبخ والحمّام. أنا فارس درّاجتي من الحديد وشابٌّ لي ديكي يصيح في الحمّام وينتصبُ ويهزّ عرفه وخصيتيه أثناء رشّه بالماءِ الحارّ. لا  تسخّنوا الماء جدّا وإلا فالديك يهرب ويركب الحصان الأسود أمام الباب ويصيح فيستفيق الجيران في النّهار على صوت أبواقه. سنسخّن الماء كثيرا منذ شهور لم تزرنا بحصانك وديكك سنقصّه إنْ هزّه عرفه وخصيتيه وإن فرّ ديكك في حوشنا فلن تجده، ربّما يختبّى في أسرّتنا فننام ويصيح في وسط اللّيل من اللذّة، ياسلمانو ابن خالة أبينا وعمّنا الشيخ في تل شعير. تأتي بديكك إلى عامودا، إلى حمّامنا وتطلقه على الفرس الحديدي، فيخاف الفرس من الماء الحارّ وأيضا عجيننا بين أفخاذنا يحنّ إلى لحم الدّيك، تقول سورا. فيضحك سلمانو وينسى أمّه في بيتنا يذهب ليتحمّم في بيت"سورا" وأختها، سنقصّ عرف ديكك إن هرب من كوّة الحمّام وخرج عاريا بعنق طويل أحمر؛  تحمّم بشعير تل شعير وينكسر عنق فرسك فيهرب إلى التّلال يا ابن خالتنا العمياء سلمانو. يقف حسن على سجّادة صلاة خالتنا سعادة فيمنعها أنْ تستطيع السجود فتغضب خالتنا وتلعنه أشدّ اللعن، ألا أصبت بالعمى يا حسن لتعرف أنّ الوقوف أمام المصلين كفرٌ كبيرٌ واللعب بعصاي يزعج عفريتتي فتأتي وتظهر لك فتصبح من المجانين وقلبي رقيق فلا أطلب منها ذلك. لن آخذك إلى زكاة حجّي سارا في الصيف يا سعادا، أريد أيضا أنْ أرى جنّيتك بعينيّ، إن لم تكوني تكذبين. تحمرّ عينا سعادا العمياوان من كلمات ابن عمّي وثمّ تبيضّان وتخرجُ روحٌ لم أجدها قبل في خالتنا وتنظر بغضب إلى الباحة، فيخاف حسن ويذهب يحضر عصاها من المرحاض أو من بيتِ المازوت. فتتشمّم الخالة العصا وتغضب وتهدأُ فتنهر أمّي حسن أن يترك قلب الخالة لصلاتها وحسن يخبر الخالة أنّ صلاتها لن تقبل لأنّها لم تكن متّجهة إلى القبلة أو لأنّه وقف كجدار بينها وبين مكّة المكرّمة. فتقول سعادا لأمّي، يا بدريّة، لي جنيّة منذ عدّة سنواتٍ تهتمّ بي بعد أن عميتُ وأصبحت عيني بيضاء بعد أنْ كانت عسليّة؛ تأتي، فأتعرّى من ملابسي في غرفتي، فتضع لي طشتا على أسمنت الغرفة بثقبٍ صغير ليخرج الماء وثمّ تحضر الصابون وتغسل رأسي كلّ يوم أربعاء، اشتريت من دكّان" شيخكي" صابون الغار بخمس وأربعين  ليرة. أملك من هذا الصّابون قطعتين تكفيانني لشهر. وفي الصّيف الفائت أعطاني "حجّي سارا" زكاته، ألف ليرة سوريّة بقي منها فقط بضع ليرات. تعطي أمّي لخالتنا عدّة قطع من صابون الغار أيضا كيلوات من البرغل والرزّ وأيضا فستانا عتيقا من فساتينها فتكمل خالتنا: يا بدريّة عفريتتي مثلك طيّبة؛ حين دخلت غرفتي أحسستُ بها وكانت في البداية تسخر منّي وتتهمني أنني أصبت بالخرفِ إلى أن اقتربت ذات يوم فغرزت إبرتي المغلقة في ثيابها فصارت تطيعني في كلّ شيء أطلب منها؛ ترشّ غرفتي بالماء في بيت حسّي في أواخر عامودا بالأشجار الكبيرة المتشقّقة من صياح العفاريت والجنّ والملائكة وصلوات المساجد في الأعياد والرّيح أيضا ترقص أحيانا في شعر جنّيتي وأيضا تغسل رأسي وتمشّط شعري بالمشطّ المربّع ذي الثلاثة والثلاثين سنّا وتدهن عينيّ ووجهي بدهان فأستطيع أن أبصر حياتي في الحلمِ بعد أنْ عميتُ. لكننّي مبصرة يا بدريّة، أرى وجهكِ كما أرى وجه جنّيتي وهي تسمّى أيضا بدريّة وهي جميلة ووجها كقمر فوق شجرة حوش حسّي المتشقّقة والغيوم تتبدّل في اللّيل وملاك من الله في عينيّ وعينيّ أمّ سلمانو ينشد صلوات مشايخ عامودا وتل شعير؛ كم حجّي سارا رجلٌ كبيرٌ وشهمٌ. يأتي صيفُ عامودا والغلال من الحنطة والعدس والشّعير فيسمع الفقراء بأبواب حجّي سارا ويذهبون يجتمعون في حوشه وكلّ من يذهب ويدخل الحوش في الصيف ينال شيئا؛ لا يردّ حجّي سارا أحدا بغير أنْ ينال شيئا من زكاته ويمسك ابن عمّي حسن بيد خالة أبي سعادا ويجتازان دروب عامودا المزفّتة أوّلا ثم تبدأ الدروب من الترابِ إلى أن يصلا إلى حوش حجّي سارا والفقراء كثيرون أمام الباب من القرى والبلدات والقامشلي والدرباسيّة، هناك ينتظرون، يجلسون، أكياسهم أمامهم وجيوبهم فقيرة تتمنّى الليرات وألوف الليرات وحجّي سارا لا يبخل بالزّكاة والخير عليهم. تقول خالتي لعمّال توزيع زكاة حجّي سارا أنّها من عائلة شيوخ تل شعير وتلال موزا وعامودا وأنّها خالة الشيخ عفيف وهذا ابن الشيخ عبدالباقي معها فيعطيها العاملُ إضافة وأيضا لا تنسَ ابن الشيخ عبدالباقي الحسيني لقد أتى بي إلى كرم حجّي سارا وأنا عمياء ماسكا بيدي طيلة الطريق الطويل والحرّ المختنق. فيأخذ حسن أيضا جزءا من الزّكاة. وتقول أمّي: انظر إلى يديّ الله كيف صنعتا لباس الجداجد الظفري وهي تتجوّل على أكياس القمح والجوالات التي قدّمها النّاس الأثرياء بالأرض لأبيك الشيخ وقبّلوا يديه العالمة. أنظرُ إلى لباس الجداجد وهي تنزل الأكياس بالقرب من برميل الماء الذي نخزّن فيه الماء لأجل النّهار، ماء الحنفيّات التي تصير في النّهار كأنّها صحراء وتنزل منها فقط قطرة واحدة وتصبح هي نفسها عطشى وفي الليل بخرطومٍ من الحنفيّة يصل إلى البرميل الموضوع بالقرب منها ينطبق الماء من الحنفيّة قويّا في البداية ثمّ يبطىء أو يتوقّف فيغتمّ أبي ولكنّ تيار الماء يكتسب بعدئذ كثافة ويرقص الخرطوم على فوّهة البرميل حين تأتي دفعة قويّة وضخّة شديدة من الماءِ ونحن على أسرّتنا في الحوش ندخل ثانيّة على صوت ترقرق الماء في البرميل إلى نومنا قليلا.. ويشتدّ أو ينخفض الماء بعدئذ لوحده ونحن في أيّامنا وليلنا. ينتهي سلمانو من غسل رأسه ويختبىء وراء الباب عاريا ويصيح ديكه المنتصب على عانته من الشعير في الحمّام. يرنّ بفمه، جنك، جنك،جنك، إنّه جرس حصاني الحديدي والديك يريد منشفة كي يزيل بلله من المني والماءِ وحصاني ينتظرني أمام باب البيت، إنّه يصهل، حير، حير، حير، حير. خالة أبي الأخرى أمّ سلمانو عمياء ولكنّها ليست لها عيون؛ لا يستطيعُ المرء أنْ يرى بياض عيونها أو سوادها أو فيما إذا كانت عسليّة مثل عيني أختها سعادا، إنّها أكبر عمرا من خالتنا سعادا ولا نراها إلاّ نادرا في عامودا أثناء الصّيف حيث يأتي بها سلمانو على حصانه الحديدي من تل شعير ويذهب يستحمّ في بيت"سورا". يأخذ ابن عمّي حسن بيد خالتنا أمّ سلمانو هي أيضا ويجتازان منطلقين من بيتنا الشوارع المزفّتة باتّجاه مولّد كهرباء عامودا؛ يصلان أولاّ ببطء إلى البيوت القريبة من مدرسة المتنبّي وبيوت حارّة الراشنيّين وبيت الأستاذ حمدالله كاكلو معلّم الجغرافيا. يصلان إلى شارع بيت والد صديقنا غسّان جانكير؛ ثمّ يجتازان الشّارع العامّ بين عامودا والقامشلي بالقربِ من دكّان يحيى السمّان، هناك يشتري حسن بوظة له وخالتي أمّ سلمانو تريد أيضا البوظة، فيشتري لها حسن البوظة. ببطء شديد يتابعان المشي على جوانب الشّوارع. ثمّ تتعب خالتي فتريد من حسن أن يجلسا في الطّريق للإستراحة وتستغرق الشوارع الباقيةُ أيضا عدّة ساعات. ثمّ أخيرا متجازين السّاحة أمام بيت جدّتي سلطي وفي تلك الأحياء، في تلك السّاحة وما وراءها يتجمّع طالبو الزّكاة الآتين إلى حجّي سارا وحنطة موسمه والحشرات المدرّعة التي تتفلسف على الجوالات. تقول خالة أبي لحجّي سارا أنّها عمياء قادمة من تل شعير على بسكليت ولدها سلمانو، آتية بعماها من تل شعير الفقيرة وسلمانو فقط عمله الركوب على الدرّاجة وتزيينها والتفكير في ديكه ولا سمن في البيت ولا سكّر وأنّها من بيت آل الأب الكهل في دياربكر والشيخ والدي الشيخ عفيف هو أخوها في عامودا وحسن ابن الشيخ عبدالباقي مثل ديك سلمانو يرفرف عقله ويريد بعض أجرة الاتيان بها إلى عتبة بيته ولباس زكاته واسمه الذي يعمّ في الجزيرة كأنّه الهواء النقيّ بعد الجفاف والقحط. فلا يبخل حجّي سارا على خالتنا وابن عمّنا حسن يضع المئات من الليرات في جيبه ويفرح بخالتنا العمياء ولا يغيظها مثل خالتنا الأخرى حيث خالتنا هذه قليلة الكلام وجدّية وأكثر كرما على حسن؛ تعطيه أيضا عشرات من حصّتها من الزّكاة ويعودان آخذين الدروب الترابيّة أوّلا، ثمّ دكّان يحيى ويشتري حسن له البوظة والخالة لا تريد هذه المرّة ثمّ يجتازان الشّارع العام ويصلان إلى منتصف شارع بيت جانكير فتشتدّ رغبة خالتنا أنْ تتغوّط ولا تستطيع بعد أن تصبر إلى أن تصل إلى بيتنا؛ تنزل سروالها بعماء في زاوية الشارع والوقت عصر وحسن ينتظر على مبعدة قليلا، لينبّهها إن جاء أحدٌ ما، وحسن يخجل من خالته وهي من قرية تل شعير ولا توجد شوارع  في تلّ شعير ويتغوّط النّاس أين يريدون. أرد ابن عمّي حسن منعها أن تتغوطّ  في زاوية الشّارع ولكنّ خالتنا كانت أسرع في تنفيذ أمرها وحسن يفرك يديه ويعرق ويلتفت مبهوتا ولم يعرف أمرا كهذا في حياته ولم تفعل خالتنا الأخرى شيئا كهذا معه بعد زكاة حجّي سارا وبوظة يحيى. تنهي خالتنا التغوطّ وترتاح وتقوم مخلّفة على الأرض قطعة خراء وحيدة، يابسة، بدون ماء؛ بنيّة، صلبة، صلبة، جافّة مثل حجر بدون رائحة، كأنّها كانت تحتفظ بها في أمعائها منذ سنين،
- آخ؛ كم ارتحت الآن، بارك الله بحجّي سارا وأمثاله. حسن، تعال خذ بيد خالتك!
يضحك سلمانو ويتناول المنشفة من اليدِ الأنثى. الديك راض؛ يختبىء سلمانو خلف الباب ويظهر فقط عضوه المنتصب ويده عليه. يغمض إحدى عينيه ويجعل الأخرى حمراء ويسعل من بخار الحمّام ثم يرتجف جلده ويصيح: انظروا إليّ، لست عاريا بعد وهذه لذّته وهو عارٍ يحتال على اليد الأنثى التي تناوله المنشفة. ثمّ يضحك: حيق، حيق. هذا هو: ديق. ديق... إنّني والدّيك هنا في الحمّام. لا يخرج من الحمّام ولا يقترب منه أحد خوف أنْ يكون بعد عاريا وأن يصيح عضوه في حنجرة ديكه والحصان لن يهرب؛ لقد شدّه بسلسلة حديدية صلدة أمام البابِ.









طنبورات

 مهداة للمطرب فرج بصلو

في ذلك المساءِ الذي ذهبت فيه إلى البيت ظلّت "ملكا" تحبّ فارس مثل أمّه وتحبّني يوما كاملا وبعد ذلك اليوم أحبّتني كثيرا في ظنونها عوضا عن أمينة التي كانت في الحلمِ تذهب إلى بيت ملكا وتشعر بصداقة خفيفة معها دون أن تقول لها أسرارها قطّ ودون أن تقول لها عنّي أيّ شيء وما الذي عليها أن تقول عنّي وهي لم ترني أثناء مروري بها بعد سنتين من زواجها في الشّارع العامّ في القامشلي وبيننا كلّ أولئك النّاس والسيّارات وأنا في الطّرف الآخر من الشّارع وهي في الطرفِ الأيمن منّي؛ أنا باتّجاه محطّة الباصات وجسر جقجق وهي في الاتّجاه الآخر نحو مكتبة أنيس حنّا مديوايه وثمّ جامع زين العابدين والكورنيش.
 تنظر إليّ ملكا بحنان كبيرٍ حين أقترب من شبّاكهم وأنا أيضا أبتسم وتبتسم ملكا طويلا وتتأمّل عيونها الواسعة الكبيرة فيّ وتبتسم في عينيّ. مَن هي " ملكا" ولماذا تحبّني بهذا الحنان واللّطفِ وهي لا تعرفني ولم ألتقِ بها قطّ؟ أعرف طبعا، ملكا هي أخت صديقي" فارس" الذي يركب الدرّاجات النّاريّة ويلفّ اللفاعات الثوريّة ويتجوّل في القرى لتحرير كوردستان. هل فارس في البيت؟ وبدلا أن تردّ ملكا، تنظرُ إليّ طويلا وتبتسم في وجهي؛ لماذا تحبّني أخت صديقي فارس؟ أكتشف بعدئذ أنّها تعرف الكثير عنّي وبسمتها كذلك تقول: أعرف شعرك يميل من حبّ جارتنا" أمينة" وتأتي إلينا لأجل شجرة توتنا التي تستطيع أمينة أن تراها كلّ صباح وتنظرُ إلى ثمرة التّوت لأنّ أمينة أكلتها وأيضا تهبّ ريح على الشّجرة فتفسّر عيناي أنّك شابٌّ نحيل تتجوّل في طرق المدينة في الخريف، تلتقط ريش طائر أو تلتقط لمعان زجاجة على أحد الأزقّة القريبة من المستوصف البلدي فتشعّ عيون أمينة في الزّجاجة أو على حافّة الإبرة وحبّها ينغرز الآن في مراهقتك مثل مساء تركض فيه الكلاب أو مقبرة خالية من بعيد.
حين طلبت أمينة من أخيها أنْ يذهب ويشتري لها خسّة من البائع المتجوّل الذي كان يبيع الخسّ الطريّ الطازج الأخضر الفاتح هكذا قصّ لي جمعة الحكاية، لم يذهب أخوها لشراء الخسّة وبقي مع جمعة في الغرفةِ إلى اليمين. في تلك الليلة حلمت أمينة أنّها تأكل الخسّة ولم تستطع أنْ تحلم أنّي أتيتُ ودققت باب بيت صديقي فارس وأنّ ملكا ابتسمت معي طوال ذلك اليوم وأحبّتني ملكا ربّما أكثر من أخيها في ذلك المساء وأيضا في السّنوات التّالية كانت ملكا أختي حين لم أعد أدقّ الباب وفقط أعرف أنّ أخا لها حوّل بعض الغرف الواقعة على الشّارع إلى دكّان ليبيع فيه الحديد.
كان شعري يميل في الرّيح ولم تكن أيّ ريحٍ تهبُّ؛ فقط كنت أنظرُ إلى شجرة التّوت في بيت" ملكا" وأعرف أنّ الرّيح ستأتي عمّا قليل والشّجرة ستميل على شعري وثمّ شعري سيميل على نفسه في البداية ثمّ يصبح لونهُ الأسود بنيّا قليلا وأنا بعد أن اجتزت شوارع عديدة في المدينة؛ بعد أنْ ذهبت إلى أحياء قصيّة رغبة منّي أن يسترعي انتباهي زقاق فيه شجر سرو يرتعش في اللّيل أو في المساء أو في الظّهيرة وأعرف: لسوفَ تسقط ورقة من هذه الشّجرة في قصائدي وأنا في حيويّة بعد المشي والاصغاءِ.
شجرتكم يا أخت صديقي الثوريّ على الدرّاجات الناريّة شجرة كبيرة، تراها أمينة؛ إن استيقظت أمينة من النّوم وإن أكلت توتة منها تشعر بي في بطنها ولكن، لا أعلم، حين بصدفة مررت بها في القامشلي لم ترني، كانت تمشي في الشّارع العامّ ووجهها كان أصفر في لون المصابيح وكانت غير منتبهة على الإطلاق وبيننا كان ناسٌ كثيرون، فكيف كان يمكنها أنْ تفكّر فيّ.
في البئر الذي يغنّي فيه المطرب المشهور فرج بصلو بالقرب من نهر جقحق تمرّ أمينة عصرا تنظرُ إلى البئر وتلقي بأحد الألفعة التي صنعتها مؤخّرا.
كم هؤلاء المطربون مساكين، يحملون طنبوراتهم من عرس إلى عرس واللّغة الكورديّة ممنوعة فيغنّون في آبار الجقجق. يتلقّف مطربنا في البئر اللفاع يلفّه حول رقبته ويصيح من القاع:
-    أمينة، لا تنسي مطربك الذي في ألمانيا. احلمي أنّك تصنعين له الألفعة المزركشة الكورمانجيّة. يداه تعزفان على طنبور حبّك منذ سنوات عديدة وانقطعت الأوتار بعد الأوتار وتهرّأ الخشب بعد الخشب.
-         سأحلم أنّي آكل التّوت له وهو يفهم الحلم ويفسّره. كان عليكم أن تتعلّموا مهنة أخرى سوى الطّنبورات.
رجعت ذلك اليوم حيث فارس لم يكن في البيت وملكا بعد أنْ أدرت ظهري ظلّت تنظرُ إليّ إلى أنْ وصلت إلى البيت وظلّت تبتسم وهي منشغلة بعدئذ في القيام بإعداد العشاء لفارس ولأخوته الذين أصبحوا شيئا فشيئا أصدقائي الأعزّاء جدّا على قلبي الذي كان يفكّر في التوتة التي أكلتها أمينة من شجرتهم وهي في بطنها ذكّرتْها بي حين أتيتُ إلى بيت ملكا أسأل عن فارس ولماذا أصبحتُ صديق فارس؟ لكن في القامشلي حين مرّت أمينة منذهلة التفكير بي ومررت بها ورأيتها ثمّ أصبت بإغماء في معدتي ولم آكل قبل ذلك وبعد ذلك أيّ طعام وعشت من كتابة الشّعر. كيف أصبحتُ صديق فارس ولم أكن ثوريّ لفاعات ولم أعرف أن أحرّر ذاتي من حبّ أمينة آنذاك وجئت إلى بيتهم أسأل عنه وهو ليسأل بعد شهور من ذلك عن قلبي ويعرف أنّني أتعثّر في الشّوارع من التفكير في الخَسّة التي أكلتها أمينة بعد الظّهرِ تلك الخسة التي قصّ لي حكايتها صديقي" جمعة". وماذا تريد من التوتة ومن الخسّة التي هضمتها معدة أمينة وكوردستان يأكل توتها وخسّها الأعداء وشعبها يتكلّم بالصّمت وأسنانه تراب وفمه دم من الظّلم وظهر أمّه يجلد بهراوات الفرس والترك؟ ماذا تريد من قلبك؟ فارس، صديقي.
حلمت أمينة أنّها تمرّ فوق جسر نهر جقجق وتسمع أغنية من أحد المقاهي، أغنية عن سنونو جدّي اليهودي عزرا الذي يخرج من سقف دكّانه ويعبرُ بسرعة كبيرة سوق الخضار والمنتوجات الآتية من تركيّا يصل نهر جقجق فيهبط بأجنحته ويلمس الماء خفيفا ثمّ يختفي لثوان ويرتفع ثانيّة. استغربت أمينة من حلمها في الصّباح ولم تجد له أيّة علاقة بحياتها الحاضرة. طبعا في أعمق اللّحظات كانت تشعر بعينيّ وأنّني لا زلت أطالبها أن تحيك لي لفاعا بيديها وتعرف أنّي أنتظرُها في المركز الثّقافي وكانت قد قرأت الدّعوة التي أعطاها جمعة لأخيها بعد ذلك المساء وحاكت لي لفاعا دون أن أشتري الصوف الذي وعدتها أنْ أجلبه لها. أصررت على أمينة وكرّرت مررا أن تستعجل في حياكة لفاع لي لألفّه حول رقبتي وأصعد درجات منصّة المركز الثّقافي في عامودا لم تكن أمينة تعرفني فوق تلال موزا؛ فيه كانت أمينة ترتدي بنطلونا أحمر وقميصا أبيض وكنتُ أنا وغسّان نجلس على مبعدة عشرين متراً منها ومن الناّس الذين كانوا معها. لم أدرك كيف رأت أمينة ألوان اللفاع ولم أستطع أن أقصّ لها عن أنني كنت أراقبها طوال خمس ساعات على تلال موزا. وكيف سأبرهن لها ذات يوم في رسالة ما إلى المعهد أنّني تمدّدت مريضا من مرض حبّها الذي ضربني ومدّد نفسي بقرب الحرمل على موزا وأنّ عصفورا حقيقيّا كان يجتاز أسفل التّلال وينزلُ مصابا في بدني وينظرُ إلى الخرزة الزّرقاء التي اشتريتها لسوزانا والتي كانت في أذن أمينة حين ركبنا الشّاحنة متّجهن إلى تلال موزا في الصّيف في الصفّ العاشر للتدرّب على إطلاق الكلاشنكوف. والخرزة الزّرقاء التي كانت على التّلال حمراء وفي أسفل التّلال ارجوانيّة وعليها طبقة خفيفة من ذلك الغبار الناعم في أسفل التّلال. ستقول أمينة، لا علاقة لي باللّفاع ولم أنسج بيديّ وأصابعي أيّ لفاع له، لقد طلب منّي وكرّر جملته أكثر من خمس مرّات وأنا لم أجب سؤاله لا بالسلب ولا بالإيجاب ولم أذهب إلى أمسيته حين أتى هو مع غسّان وشعره كان طويلا، أصبح بنيّا بعد أن كان أسود في معسكرالصفّ العاشر. أعرف، أمينة، الخاتم أيضا لم يره إلاّ غسّان وكتاب بوشكين أراد أن يعطيه غسّان لمها ورسمة الغلاف بالفحم هي شاعرٌ بشعرٍ مريض من الحبّ يستلقي في السّرير وحبيبته بالقرب منه تعتني به، بعد أن علمت بأنْ لا قيام له من سرير حبّه. أتعرفين غسّان؟ ظلّ لعدّة دقائق في الغرفة معنا، كانت هذه المرّة الأولى التي يراك في الواقع بعد أن قرأ قصائدي العديدة عنك وشعرتُ أنّه كان يريدُ أنْ يظلّ جالسا معنا لأجلك؛ لأنّك كنت قد أصبحت ناضجة، امرأة ناضجة وأمينة تلك النحيلة الشّاحبة من الصفّ العاشر كانت قد اختفت تقريبا وأنت أمينة أخرى وغسّان كان يريد أن يعرف كيف أتكلّم معك وماذا أقول لك وكيف أتعامل معك. إنّه صديقي في الأمسية وعلّقنا لوحة الإعلان عن الأمسية بالقرب من باب الجمعيّة التعاونيّة وأتينا إلى صديقنا الشّاعر فارس وشعري تهبّ عليه الرّيح التي لا تهبّ أبدا فيميل بالقربِ من شجرة التّوت ووجدناك صدفة بصدفة محضةٍ هنا وأنت كنز لي وصدفة كبيرة لصديقي العاشق غسّان. هذا قبل أن يحاول غسّان أنْ يعطي كتاب قصص بوشكين لمها، كتاب بوشكين بصورة ابنة الآمر مرسومة بالفحم وعاشقها بشعره البنيّ المائل ممدّد في السّرير. سنونو جدّك عزرا وشجرة أختك ملكا والخسّة التي لم يشترها أخ أمينة لها من البائع وجملة تتكوّم في فمِ صديقي غسّان منذ سنتين ولم يستطع أن يقولها لمها وبالكتاب أراد أنْ يعبّر لها وهي لم تأخذ الكتاب في يدها؛ كانت متردّدة وقطع غسّان الصّفحة الأولى من الكتاب، تلك الصّفحة التي كان اسمي مكتوبا عليها قبل أن يحاول إعطاءه لمها.
ببطء أصعد الدّرجات في المركز الثّقافي حيث أكون قد شربت مع الأصدقاء ذلك النبيذ المعتّق الرخيص في بيت هژار برفقة جمعة وخالد وعماد وآخرين من الشّعراء ويكون جمهورٌ كبيرٌ في انتظار صوتي وشعري الذي كتبته عن اللفاع الذي صنعته يدا أمينة لي خلال أسبوع واحد وباللّون الذي اختارته هي أو بالألوان التي أريدها ويريدها صديقي فارس وتريدها أختي ملكا. أصعد المنصّة وفي المقعد الأخير يجلس الأصدقاء، فأقرأ القصيدة وأرفع يدي وألمس اللّفاع  وأرفع أحد جوانبه – من يدي أمينة،
حاكته لي فقط، خلال أسبوع –
أحمر ومنقّط بالأسود ومنثور عليه الأخضر
وعيد نوروز فيه.
 




سمّ عامودا
 
أعرف يوتوبوري في الصّيفِ.
أعرفُ الشارع القريبَ من محطّة القطارِ.
المحطّة الصّغيرة مثلما في الخرافات للأخوين غريم. يجب أن تعيشَ في المحطّةِ عجوز شمطاء ساحرة من ذوات المكانس وأميرٌ من الزّجاج، أقصد من الجليد. ليس في الصّيف، هذا في الشّتاء أو الربيع. هل أعرف المحطّة في الصّيف فقط! وهل لأشبّهها ببيت خرافة من قصص الألمانيين في العصور الوسطى! هذا قليل لي..
قليل حيثُ أرى حين ألتفتُ إلى يميني وأرى النّهر الأزرق، الجسر الأزرقَ، والضفّة الزرقاء وليس ثمّة مَن طائر يطير. أنا فعلاً هنا على هذه الأرض ولي منقاري ولي أجنحتي التي هي للطيور وأنظرُ إلى الطّيور وأحسّ بها في لغة الطّير التي هي لغة الشّعر أوّلا. أنظرُ إلى يميني، إلى الترام الأخضر هذه المرّة الذي يمشي باتّجاه السّوق- إذاً، لم أقل شيئاً عن يوتوبوري ثانية. أبحث في الغوغول عن حبّي، أعطي غوغول، ماكنة البحث أسماء حبيباتي ومن بينهنّ يوتوبوري. كم هو اسم ياباني، ينبغي كتابته باليابانيّة حين البحث. لم أقل سوى أنّ يوتوبوري في الشتاءِ. أنا مع قدميّ. أنا مع نفسي، طبعاً منذ زمن طويل. في عامودا أيضاً أنا مع نفسي وبعد أمسية شعريّة في المركز الثّقافي. أنا مع نفسي بالقربِ من الكنيسة الطينيّة وطبعاً لم يكن النّاقوس من الطين. كتبت في الخريف الشّعر وقرأت في الخريف الشّعر عن هذه الكنيسة، لهذه الكنيسةِ ذاتها في عامودا. وطبعاً يالجمال باحة دارة مدير ناحية عامودا. رنّ جرسُ الشّعر أوّلاً على سطح بنيّ طينيّ في القصيدة والقصيدة مع عماد الحسن في الحواري العاموديّة الأبعد. الفتيات يرششنَ عتبات البيوت في الصيف بالماءِ، دفعاً للحرِ ويقول عماد الحسن بعد أمسية شعريّة: "فلنتكلّم ابتداء من الشارع القادم بالعربيّة الفصحى وحاول، رجاءً، أن لا تضحك...".
لاأريد أن أستقبل الخريف في ألمانيا. أريد أن أستقبل الخريف في عامودا. أصبحتُ عاطفيّا جدّا في عشر سنوات في هانوفر. أصعد البسكليت إلى أصدقائي عبر غابة ما. والغابة تعرفني جيداً وتعرف البسكليت جيّداً. تقول: "لن يملك سيّارة أبداً!". تبّاً لغابات ألمانيا، لاتفكّر إلاّ بطريقة ألمانيّة! أريد الكنيسة الطينيّة وأريد الّلذة للثمرةِ المقطوفة للشّجرة قرب المستشفى الوطني، وأريد أن يرمي شيرزاد بألوانه على حائطٍ ما وأشعر بالفشل العظيم. التّعب الذي سيجرّه الصّيف معه عليّ وأعصابي تالفة تقريباً. لم  يعد لي أملٌ في أيّ شيء وثانية هذه الدّورة الانبعاثية، ولاولادة أترجّاها وأمينة قد تزوّجت وهي ليست سعيدة مع زوجها وهو يضربها ويسبّها كما سمعتُ، وأعصابي تعبة جدّاً ولا أحتمل نكتَ وطبيعة أهل عامودا. كيف سيموت هذا الصّيف أخيراً. بضعة قصائد مثل نباتات بالقرب من الكنيسة، هي قصائدي التي كتبتها خصيصاً لهذه الأمسية في المركز الثّقافي، أردتُ شيئاً طازجاً لهذا الجمهور الشابّ ولي. وقلت في نفسي، سأؤمن بالخريف طالما أنا متعب إلى هذا الدرجة. نباتات شاهقة، لاتصعد الجدران، إنّما هي صفراء، هي نباتات شاي ربّما، إنّها قصائدي، أنا من كتبها كلّها، لأجل هذه الأمسية في الخريف. إنّها إيماني لأعصابي المرهقة التي لاتطيق شيئاً ولاناساً بعد. إنّها فقط كلمات تختلف عن الصّيف، عن تلّ شرمولا، عن الماضي، عن التخلّف، عن الفقر. تشكّل لي عالماً آخر. إنّها في الشارع، حقيقيّة جدّاً، إنّها من التفّاحة، من حليب أخضر النّباتِ، إنّها من العرقِ والملابس والحبّ لأمينة حقيقيّة، لم تزل في عامودا وشعري طويلٌ وأرى لوحات الإعلان عن الأمسية معلقّة على حائط الجمعيّة التّعاونية للنقل والمواصلات بين عامودا والقامشلي. نعم، إنّها مدينة القامشلي، مدينة ذات شارع طويل رئيسي. فيها مسيحيّون ومكتبات كثيرة وفتيات مسيحيّات يلبسن فساتين قصيرة. أرى ركبهنّ المدوّرة وأنتعشُ، أرى أذرعهنّ وأنتعش حين أنظرُ إلى قبّة مسجد زين العابدين. إنّها القامشلي بشارع وحيد، طويل على النمط الفرنسي، وعامودا أيضاً على النمط الفرنسي، ويكتب عماد الحسن على حائطي - الأمسية الشعرية في القامشلي باريس الشّرق ذات مرّة. ألتفتُ إلى قصيدتي المعلّقة في حائط باص الجمعيّة التعاونية وأقول: إنّها فكرة فرنسيّة، كتابة قصيدة عن خريف الكنيسة على الباص! يقول الجابي: لأجل هذا ستدفع للجمعية 500 ليرة سوريّة. أقول، إنّه غال، أستطيع طباعة مجموعة شعرية بالمبلغ هذا. فيردّ عليّ:
ـ لا، بهذا المبلغ سنشتري عدّة باصات جديدة!!!
ـ آه، أنتم أهل عامودا.. شعب البيليا..!!.
سأشرب الشّاي وألتذّ بتأمل نفسي وهي تحاول أن تقول. بدلاً من ذلك سأنتعل خفّافتي الزرقاء الدّاكنة، أحمل بضعة سكائر وبعض النقود في الجيب وأخرج من البيت في يوتوبوري. أحتاج يومياً لساعتين من المشي خارج البيت، لأحس بنفسي منتعشاً وقادراً على التفكير والتّعامل، بدون ذلك، مزاجي عكر وأعصابي تالفة ولاأقدرُ على التلذذ بأيّ شيء، وأقول في نفسي: كيف يمكن تحمّل الحياة. أخرج لأتحمّل الحياة. أنا شابٌّ دائماً، غير متزوّج كالسابق وعندي أدوات كتابة وترجمة القصائد. أتكلّم بعدّة لغات، وأستطيع أن أرى الأشياء بوضوح نادر وأحسّ أنّني شاعر يحتاجه العصر. هكذا في يوتوبوري. والمدينة ـ لم أر إلاّ القليل في الأيّام الماطرةِ، بقيت معظم الوقت في البيت، وشربت الشاي ثمّ الشاي ثمّ الشاي وهو في رأيي حلٌّ كبير لي. أستطيع التركيز وأستطيع أن أحصل على معدة فارغة إلاّ منه. معدة لاتتعبها اللّحوم باحتياجها إلى الهضم، ثمّ النّوم كما تفعل الأفاعي، غالباً وأفعل أنا أيضاً كأفعى. أنا أيضاً أفعى نفسي، مليء بسمّ الشّعرالذي جلبته معي من عامودا، حيث الحرارة كبيرةٌ، وينتج هذا الأمر الأفاعي والعقارب السامة، ولاتوجد بناء عليه العقارب في ألمانيا، والأفاعي الموجودة غير سامّة مطلقاً. جلبتُ سمّي معي من تلك القصائد النباتيّة المليئة بالسمّ النباتي، والتي كانت مكتوبة على طين الكنيسة وعلى جدران باصات الجمعيّة التعاونيّة، جلبت السم بالكيلوات الثقيلة حين كنتُ في الصفّ العاشر والحادي عشر. حين كانت عامودا حارّة مثل ماء يغلي في قلبي، وكنتُ أفكّر. سأحبّ مثل ابن الفارض وابن عربي وأذهب إلى الحجّ وأمضي معظم حياتي بالقرب من الحجر الأسودِ، وأرى عيني محبوبتي بدل مصابيح باصات الجمعيّة التعاونيّة، وأرى يديها بدلَ الأعمدة البنيّة والبيضاء، ولا أحتاج "كييف"، لا أحتاج "مينسك" ولا أحتاج أن أستمع إلى المجنونات في ليالي الهجرة القصار والطوال، المجنونات الفقيرات البائسات اللواتي كنّ يغنين حبّي الضّائع في ليتوانيا، وكنت أكذبُ عليهنّ، حين أظهر لهنّ قلبي شفّافاً كالزّجاج وهنّ كنّ يعرفن ويغنين قصائد لتوانيّة لحياتي في السمّ. في السمّ العاموديّ.
لحياتي، ذلك النّهر الذي يجيء الخريف إليها على أمير من الجليد. وحياتي ترتعشُ مثل ماء الخابور في الطين. حياتي ترتعشُ في صيف عامودا حين تسهرُ وترى القطا والطّيور وتخرج من باب غرفتي المهدّمة، الباب ذي الشقفة الواحدة كأنّه باب قلعة وشبّاكي الأزرق بالفعل كأنّه شبّاك الشّعر بالفعل. في أرض الوحش، أزرع نواة الأرانبِ وفي تنوّر أمي صور بروسلي تحترقُ في خبز التنوّر. ترتعشُ حياتي بالقرب من مفرق الحسكة وبإتّجاه عامودا بالقربِ من الأواني المصنوعة من الطين الأحمر والزّجاج الأخضر. أكون متعباً في الصّيف وباصات العرب الشوايا والتخلّف تمرّ بي، وكأنني لاعلاقة لي بكلّ العالم. أنظرُ في قلبي إلى الحب الذي صار أفعى في نهر الخابور. أكره الحسكة وعامودا بالإضافة إلى حلب...!!
 
 
هانوفر، صيف 2006

 
لوحة الغلاف : الفنّان خليل عبدالقادر


كلمة الغلاف الأخير

وأمتصّ الدّخان على حبّ أمينة في المسيرات؛ أرتشف الشّاي الغليظ الكورديّ وآكل بعض عيدانه وأمصّ الدخان ليصل إلى مستودعات المني في خصيتيّ وأوردتي؛ يبدأ رأسي بالدّوخة والتعبِ والغثيان يرتعش في معدتي فآخذ كأسا أخرى أكثر سوادا فيشتدّ الغثيان؛ عند ذاك أكتب: يا أسفي على الباب وعلى مني الثعلب الدّائخ وربيع حنّاء الفرج المراهقِ...